ثقافة

لبنان الكبير .. من «سحر الخطأ التاريخيّ» إلى الدور الحضاريّ المُرتجى ـ الجزء الأول

إعداد: أمين الياس

تمهيد

                يتضمن هذا النصّ مُلخَّصًا عن كتاب “لبنان الكبير من سحر الخطأ التاريخي إلى الدور الحضاري المُرتجى” لكتابه أمين الياس، والصادر عن دار سائر المشرق (2020) بمناسبة الاحتفال بمئويَّة لبنان الكبير.

                في هذا الكتاب قسمان رئيسيّان: في الأوّل نجد قراءة استخلاصيَّة للمئة سنة المنصرمة من تاريخ هذا الكيان الحديث الولادة بما تضمّنته هذه المئويَّة من إشكاليَّات أرخت بثقلها على المحطات المحوريَّة من تاريخ هذا “اللبنان الكبير”. أمَّا في القسم الثاني، فيَخرح فيه الكاتب من عباءة المؤرّخ ليأخذ دوره كمواطن يحاول استخراج مشروع فكرة-أمّ من معاناته الوطنيَّة. فكرة تقوم على “العلمانيَّة الشخصانيَّة” بما هي من نظام حياة يفصل ما بين الشأن السياسي والاجتماعي العام والشأن الديني والروحي الخاص، بما يحترم حريَّة ضمير الكلّ مساويًا ما بين كلّ المواطنين على المستويات المعنوية والقانونيَّة. علمانية تقوم على محوريَّة الشخص بما هو مصالحة ما بين أبعاد ثلاثة: الفرد، والآخر (بما يعنيه هذا الآخر من جماعة) والبُعد الما-فوقي أو الروحي.

لبنان الكبير: حلم وهزيمة

ربَّما يكون حدث إعلان دولة لبنان الكبير في الأوَّل من أيلول 1920 أهمّ الأحداث التي شهدها لبنان منذ ذلك التاريخ وحتَّى يومنا هذا. ذلك أنَّ الأحداث اللاحقة مقارنة بهذا الحدث لم تكن إلَّا هزَّات ارتداديَّة لولادة كيان شاءَه جزءٌ من أبنائه ورفضه الجزء الآخر.

في الواقع، وفي حين كانت هذه الولادة خاتمة نضال طويل خاضَه الموارنة (بقيادة الكنيسة المارونيَّة وبعض المثقّفين والأحزاب والجمعيَّات اللبنانيَّة التوجُّه) الذين اعتبروا أنَّ لبنان الكبير هو التحقُّق الواقعيّ والقانونيّ لحلمهم التاريخيّ، كانت بالنسبة للمسلمين عامَّة، وللسُنَّة خاصَّة، هزيمة سياسيَّة وخيبة أمل ببناء دولة عربيَّة موحَّدة تكون التحقُّق التاريخيّ لتصوُّرهم العربيّ. وممَّا زاد الطين بلّة عندهم أنَّ هذه الدولة العربيَّة كانت التعويض المعنويّ والواقعيّ الوحيد للفراغ، الذي وجد العرب المسلمون أنفسهم فيه بعد العام 1924 إثر إلغاء أتاتورك الخلافة الإسلاميَّة. صحيح أنَّ فكرة القوميَّة العربيَّة، أو العروبة، نادى بها في البداية العديد من مُفكّري النهضة الأولى المسيحيّين من أمثال بطرس وسليمان البستاني وإبراهيم اليازجي وأمين الريحاني وغيرهم، وهي كانت بالنسبة لهؤلاء الأرضيَّة المشتركة التي يمكن أنْ تجمعهم مع المسلمين من أجل النضال ضدّ الأتراك. غير أنَّ المسلمين بغالبيَّتهم الساحقة لم يستطيعوا الخروج من فكرة ومقولة أنَّ العروبة هي الإسلام. بتعبير آخر كانت العروبة عندهم تعويضًا معنويًّا ومشروعًا يمكن أنْ يحلّ مكان نموذج الخلافة الإسلاميَّة. إذًا، في هذا المرحلة، كُنّا أمام فريقَيْن: أوَّل مسيحي ماروني يعتبر لبنان ابن نضاله وتحقيقًا لحلمه التاريخي، وبلدًا يمكن للمسيحي أنْ يعيش فيه حرًّا، سيّدًا، قادرًا على تحقيق ذاته الإنسانيَّة وعلى فرض وجوده وهويّته في عالمٍ مُتجدّد ومُتطوّر؛ وثانٍ مسلم بغالبيَّة سنيَّة (ذلك أنَّ الشيعة والدروز لم يكونوا قد بلوروا توجُّهًا سياسيًّا واضحًا آنذاك)، يعيش حالة هلعٍ وضياع سبّبهما إلغاء الخلافة لتُعمّقهما في ما بعد ولادةُ دولة لبنان الكبير وسقوط مشروع الدولة العربيَّة الموحَّدة.

جاء العام 1936 بتغيُّراته الاستراتيجيَّة الكبرى نقطة تحوّلٍ في موقف المسلمين من لبنان. فالسوريُّون، المطالِبون بإعادة ضمّ المناطق الملحقة بلبنان عام 1920، استغنوا عن مطالبتهم بحُكم المعاهدة الفرنسيَّة-السوريَّة، مُفضّلين صبَّ جهودهم على توحيد أقاليم سوريا الأربعة (المنطقة العلويَّة، والمنطقة الدرزيَّة، حلب ودمشق). بينما انقسم المسلمون السُنّة في لبنان فريقَين: أوَّل أصرّ على الوحدة السوريَّة-العربيَّة، وآخر بدا أكثر واقعيَّة وتقبُّلًا لفكرة الكيان اللبنانيّ المستقلّ على أنْ يكون جزءًا من عالمٍ عربيّ على طريق الاتّحاد (وهو النموذج الذي عكسته في ما بعد جامعة الدول العربيَّة). تجرّأ كاظم الصلح، في مقالته التي تحوَّلت كُتيّبًا «مسألة الاتصال والانفصال في لبنان»([1])، على دعوة المسلمين إلى الاعتراف بلبنان الكبير والاتّفاق مع المسيحيّين على مشاركتهم السلطة وإدارة البلاد بانتظار تحقُّق الحلم الكبير بإقامة الدولة العربيَّة الموحَّدة أو الاتّحاد العربيّ بموافقة الجميع بمن فيهم المسيحيّون والموارنة أنفسهم. تلاقى هذا الموقف مع التوجُّه المارونيّ الاستقلاليّ بقيادة يوسف السودا، وكانت ترجمة هذا التلاقي بميثاقٍ وطنيّ أوَّل مكتوب([2]) في العام 1938 كان أساس الميثاق الوطنيّ الشفهيّ الذي اتّفق عليه رياض الصلح وبشارة الخوري في العام 1943([3])، وعكساه في خطبهما وبياناتهما الوزاريَّة والتعديل الدستوري الذي جرّد الانتداب الفرنسيّ من كلّ صلاحيَّاته الدستوريّة.

طبعًا كانت التسوية طائفيَّة. إذ إنَّها قامت بين جماعتَين دينيَّتَين وثقافيَّتَين مُختلفَتَين: المسيحيِّون والمسلمون. وكان كلٌّ من الصلح والخوري مُدركَين لهذا الواقع. من هنا استفاضة كلّ البيانات الوزاريَّة والخطب الرئاسيَّة والمشاريع السياسيَّة بالتشديد على الطابع الموقَّت للطائفيَّة إلى حين بناء المجتمع المدنيّ على أساس المواطَنَة والهويَّة اللبنانيَّة والتربية المدنيَّة. حتّى أنَّ المواد المتعلّقة بالطائفيَّة في الدستور اللبناني هي ذات طبيعة موقَّتة كما بيّنته دراسات العلَّامة الدستوري إدمون ربّاط([4]).

غير أنَّ رياح المنطقة جرت بما لم يكن يتوقّع أرباب التسوية اللبنانيَّة آنذاك. اصطدم العرب بعضهم ببعض حول مشاريع الوحدة العربيَّة، فهذا ينادي بالهلال الخصيب، وذاك ينادي بسوريا الكبرى. ثمَّ كان إعلان دولة إسرائيل في العام 1948 لتليها هزيمة الجيوش العربيَّة في العام نفسه وهجرة مئات آلاف الفلسطينيّين إلى الدول المحيطة ومنها لبنان. تشظَّت المنطقة بين سياسات أحلافٍ متناقضة، ثم كان تحوُّل الأنظمة العربيَّة إلى الدكتاتوريَّة العسكريَّة يزايد كلٌّ منها على الآخر بعروبته ووفائه للوحدة العربيَّة وللتحرُّر العربيّ من الاستعمار وللقضيَّة الفلسطينيَّة. كان على لبنان، هذا الكيان الحديث الولادة والدقيق المعادلات، أنْ يتعامل مع كلّ هذا الضغط المتأتّي من الخارج والمسبّب لتردّدات داخليَّة. توقَّفت مسيرة التطوّر السياسيّ مباشرة، وكان التجديد للرئيس الخوري العام 1948 بما يمثلّه من خرقٍ للدستور خير دليل على ذلك. فجأة سقطت كلُّ مشاريع التطوير السياسيّ في لبنان التي كان يُفترض بها أخذه أكثر باتّجاه العلمانيَّة وإلغاء الطائفيَّة. وعلى الرغم من محاولة الرئيس فؤاد شهاب إبَّان الستينيَّات إجراء بعض الإصلاحات فإنَّها اقتصرت على المجالات الإداريَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، ولم يستطع المسّ بطبيعة النظام الطائفيّ اللبنانيّ.

على الرغم من الازدهار الذي شهده لبنان، ومحافظته وحيدًا في الفضاء العربيّ على شكلٍ من الديمقراطيَّة وتداول السلطة ومساحة للحريَّات الفرديَّة والجماعيَّة وللِّقاءٍ بين التيَّارات الفكريَّة والدينيَّة والسياسيَّة المختلفة، فإنَّ الطائفيَّة كانت حاجزًا أمام تشكيل شعبٍ لبنانيّ على أساس المواطَنة. سقطت كلّ مشاريع القوانين المدنيَّة في المجلس النيابي بحجَّة أنَّها لا تتلائم والشريعة الإسلاميَّة. وبالمقابل سقطت كلّ المطالب بتعزيز مشاركة المسلمين في السلطة السياسيَّة بحجّة الدفاع عن الامتيازات المسيحيَّة. فكان أنْ خرجت على لسان السيّد مُنح الصلح فكرة استئثار المارونيَّة السياسيَّة بالسلطة([5]).

ظلّ النقاش مُحتدمًا بين تيَّار الهويَّة اللبنانيَّة وتيَّار العروبة ليتحوَّل صراعًا سياسيًّا دائمًا كان يتفجّر عند كلّ لحظةٍ تتكامل فيها عناصر التفجُّر الداخليَّة والخارجيَّة كما حصل عامَي 1958 و1969. ثم أتى صعود الناصريَّة ومن بعدها صعود نجم المقاومة المسلَّحة الفلسطينيَّة التي حوَّلت مخيَّمات لبنان، بدعمٍ عربيّ ولبنانيّ-إسلاميّ، إلى معسكرات وثكنات عسكريَّة، ليعلنا بدء انهيار تسوية العام 1943 بين المسيحيّين والمسلمين.

جاء العام 1975 عامًا فاصلًا في تاريخ لبنان السياسيّ لما عناه من تكريسٍ للانقسام المسيحيّ-الإسلاميّ في لبنان حول هويّته وشخصيَّته ودوره ونمط حياته وعلاقاته وحتّى ديمومته وطبيعة نظامه السياسيّ والاجتماعيّ([6]).

أخطأ تاريخي؟

للمرّة الأولى بعد إعلان دولة لبنان الكبير العام 1920 والتسوية الميثاقيَّة العام 1943 بدأ المسيحيُّون التفكير بإعادة النظر بلبنان الكبير. مُذَّاك تصاعدت موجة المسيحيّين الذين يلومون البطريرك الياس الحويّك على إصراره على حدود لبنان الكبير وضمّه تلك المناطق ذات الغالبيَّة المسلمة. كثيرون منهم أيضًا ندموا على تسوية العام 1943 ورأوا وقوف المسلمين إلى جانب كلّ التيَّارات العربيَّة وصولًا لتفضيلهم البندقيَّة الفلسطينيَّة على سيادة لبنان واستقلاله وازدهاره وأمنه وجيشه خرقًا فاضحًا لميثاق 1943. هنا علت بينهم المطالبات بالعودة لحدود لبنان الصغير. وقد يكون الكتاب الضخم (الذي هو كناية عن مجموعةٍ من الكتيّبات الصادرة عن نخبةٍ مُفكّرة في جامعة الروح القدس الكسليك) أدلّ تعبير على شعور الخيبة لدى النخبة المسيحيَّة من تجربة العيش مع المسلمين؛ كان عنوان الكتاب: «لبنان الكبير مأساة نصف قرن»([7]).

قد تكون هذه النخبة أوَّل من طالب بثنائيَّة العَلْمَنة والفَدْرَلة في لبنان. وهي أوردت اقتراحاتها في المجلّد المذكور آنفًا حيث طُرح «الحلّ الفدراليّ» كسبيلٍ للخروج من أزمة النظام السياسيّ في لبنان. كان هذا الاقتراح موجَّهًا من نخبةٍ مسيحيَّة إلى المسلمين اللبنانيّين تقول لهم فيها ما معناه: إمَّا العَلْمَنَة وإمَّا الفَدْرَلَة. كان هذا الاقتراح محاولة ردّ على مقالةٍ لمدير عام دار الإفتاء في الجمهوريَّة اللبنانيَّة، السيّد حسين القوتلي، يُعبّر فيها بصدق عن الوجدان المسلم، خاصَّة السنيّ منه. يقول في مقدَّمة مقالته المنشورة في 18 أيلول 1975([8]): «إمَّا أنْ يكون الحاكم مسلمًا والحكم إسلاميًّا فيرضى عنه [المسلم] ويؤيّده وإمَّا أنْ يكون الحاكم غير مسلم والحكم غير إسلاميّ فيرفضه ويعارضه ويعمل على إلغائه باللين أو بالقوّة بالعلن أو بالسرّ. هذا موقف واضح […] هو في أساس عقيدة المسلم. وإنَّ أي تنازلٍ من المسلم عن هذا الموقف أو عن جزءٍ منه، إنَّما هو بالضرورة تنازلٍ عن إسلامه ومعتقده […]».

طبعًا يجب ألّا ننسى هنا توجّهات الشيعيَّة السياسيَّة، بعد تغييب الإمام موسى الصدر، التي ذهبت بمعظمها إلى تبنّي النموذج الإسلاميّ الإيرانيّ -بعد ثورة العام 1979- وربما خير دليل على ذلك ليست فقط شرعة حزب الله السياسيَّة الصادرة العام 1985 والتي يعلن فيها هدفه بجعل لبنان جزءًا من الجمهوريَّة الإسلاميَّة بقيادة الوليّ الفقيه([9])، بل بمشاريع الدساتير الإسلاميَّة التي عمل عليها كثيرٌ من الأئمة الشيعة من أمثال محمد حسين فضل الله وغيره (مع أنَّهم عادوا وحادوا عن هذه المشاريع في ما بعد، لكنّ الواقعة كانت قد وقعت)، دساتير تهدف لتحويل لبنان، بعد أسْلَمَة مُجتمعه إلى دولة إسلاميَّة تحكمها «الديمقراطيَّة العدديَّة» الطائفيَّة الإسلاميَّة([10]).

وعليه حكمت ثنائيَّة الفَدْرَلَة-العَلْمَنَة كلَّ الجدل السياسيّ-الفكريّ في لبنان حتَّى كان اتّفاق الطائف عام 1990، اتّفاق فرضته التحوُّلات الدوليَّة والإقليميَّة في منطقة الشرق الأوسط على لبنان بحيث يوضع هذا البلد الصغير تحت الوصاية السوريَّة بموافقة الدول الكبرى ومباركتها، وأهمّها الولايات المتحدة الأميركيَّة.

تسوية ما بعد الطائف: اِستمرار سحر لبنان الكبير

اِنسحب الجيش السوري ومخابراته من لبنان في نيسان 2005 إبَّان تحوُّلات إقليميَّة ودوليَّة ومحليَّة أهَّمها أحداث 11 أيلول 2001 والاحتلال الأميركي للعراق في العام 2003 واغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005. عادت «المارونيَّة السياسيَّة» لتحتلَّ مكانها في النظام الطائفيّ اللبنانيّ بعد إبعادٍ دام خمسة عشر عامًا إثر هزيمة 13 تشرين الأول 1990، بعد أنْ كانت الطائفيَّات السياسيَّة الإسلاميَّة قد تقاسمت مغانهما برضا وتحكيمٍ سوريَّين.

كان من المنطقيّ أنْ تصطدم طموحات «المارونيَّة السياسيَّة» المتجدّدة بإرادة الطائفيَّات الإسلاميَّة المحافظة على مغانمها. وعلى الرغم من انقسامها السياسي، برزت رغبة عارمة عند جميع أطياف المسيحيَّة السياسيَّة لاسيَّما المارونيَّة منها بزيادة حصّتها من النظام الطائفيّ السياسيّ في لبنان والتي مثَّل التيَّار الوطني الحرّ بقيادة الرئيس ميشال عون أبرز تجليَّاتها.

وربّما كان الشلل التام الذي ضرب الدولة اللبنانيَّة منذ العام 2005 حتى أيلول 2016 أبرز دليل على انتهاء صلاحيَّة اتّفاق الطائف كما طُبِّقَ منذ العام 1990. مثّلت الأزمة الرئاسيَّة بين عامَي 2014 و2016 ذروة هذا الشلل، لتأتي الانتخابات الرئاسيَّة بعدها محطة-مفترقًا حاولت فيه «المارونيَّة السياسيَّة» تعزيز دورها في النظام السياسيّ من خلال فرض «رئيس قويّ تمثيليًّا»؛ وقد جوبهت هذه المحاولة بعنادٍ إسلاميّ راغب بالمحافظة على امتيازاته التي حصل عليها إبَّان الحقبة السوريَّة.

خلال فترة الفراغ الرئاسيّ برزت أصوات تُعيد التذكير بجدليَّة الفَدْرَلَة والعَلْمَنَة. في محاضرةٍ في مركز عصام فارس في 22 تشرين الأول 2014 عبَّر الرئيس إيلي الفرزلي عن حقيقة رفض الزعماء المسلمين إعادة لعب المسيحيّين دورهم في الدولة، يقول([11]): «كلّ الزعماء المسلمين يرفضون السماح للمسيحيّين بإعادة لعب دورهم في السلطة والدولة. والمرحلة التي نمرُّ بها حاليًّا هي مرحلة مصيريَّة، فإذا لم يتمّ اعتماد قوانين وتعديلات وآليَّات تُعيد للمسيحيّين دورهم وتعطيهم المناصفة الحقَّة فإنَّهم سوف يذهبون إلى خيارات أخرى مصيريَّة ووجوديَّة للكيان اللبناني». واللافت أيضًا في هذا الكلام أنَّه أتى عقب محاضرة للصحافي جان عزيز([12]) الذي أصبح في ما بعد المستشار الإعلاميّ للرئيس ميشال عون، عبَّر فيها عن قناعته بأنَّه ما دام المسلمون يرفضون إعادة التوازن إلى النظام السياسيّ من خلال انتخاب رئيسٍ ذات حيثيَّةٍ تمثيليَّةٍ مسيحيَّة أو القبول بإقرار قانونِ انتخاب يُعيد للمسيحيّين المناصفة الكاملة، فإنَّ المسيحيّين «سيضعون الآخرين أمام مشاريع تبدأ بالفدراليَّة ولا تنتهي بالتقسيم».

بهذا يمكننا أنْ نفهم أنَّ شيئًا ما كان يجري -وربما لا يزال- في كواليس النخب الفكريَّة والسياسيَّة المسيحيَّة يشي بأنَّهم أعادوا إلى جدول أعمالهم فكرة الفدراليَّة كمشروع نظامٍ سياسي بديل عن نظام الطائف المشلول كلّيًّا. خاصَّة وأنَّهم يجدون أنفسهم في جوٍّ إقليميّ شديد الخطورة تتفكَّك فيه الدول في العراق وسوريا وليبيا واليمن وتتعرَّض فيه الأقليَّات والأكثريَّات على أنواعها لاضطهادات مُرعبة على يد الجماعات الإسلاميَّة المتطرِّفة والتكفيريَّة.

على ضوء هذه المعطيات علينا قراءة التصريحَين الصحافيَّين للعماد ميشال عون -قبل انتخابه رئيسًا- في حزيران 2015 حيث يُعبّر بوضوح على أنَّ العلمانيَّة هي النظام الأمثل للبنان. غير أنَّ عدم استعداد اللبنانييّن لهذا الخيار، وتعنُّت التيَّارات الإسلاميَّة السياسيَّة برفض مبدأ المناصفة الفعليَّة بين المسلمين والمسيحيِّين في النظام ربما سيدفعان بالمسيحيّين إلى المطالبة باللامركزيَّة الموسَّعة وصولًا إلى الفدراليَّة([13]). هذان التصريحان يجب عطفهما على ورقة إعلان النوايا بين التيَّار الوطني الحرّ وحزب القوّات اللبنانيَّة التي تنصّ في مادتها الرابعة عشر على «اعتماد اللامركزيَّة الإداريَّة والماليَّة الموسَّعة ونقل قسم كبير من صلاحيَّات الإدارة المركزيَّة ولاسيَّما الإنمائيَّة منها إلى سلطات لامركزيَّة مُنتخبة وفقًا للأصول وتأمين الإيرادات الذاتيَّة اللازمة لذلك»([14]). ومن المعلوم أنَّ حزب القوّات ليس ببعيدٍ عن فكرة الفدراليَّة منذ أيَّام الرئيس بشير الجميِّل وصولًا إلى ترؤس السيّد سمير جعجع حزب القوّات اللبنانيَّة. ولم يكدّ يمرّ أسبوعان على كلام العماد عون حتى صرّح السيّد سامي الجميّل في تموز 2015 عند تسلّمه رئاسة حزب الكتائب بفشل الدولة المركزيَّة في لبنان وأنَّ الحلّ الوحيد لن يكون سوى اعتماد النظام الاتحاديّ([15]) -أي الفدراليّ- شكلًا جديدًا لإدارة الدولة اللبنانيَّة. بهذا تكون الأحزاب المسيحيَّة الثلاثة الرئيسيَّة في البلاد قد خرجت صيف العام 2015 بخلاصةٍ موحّدة مفادها أنّ الفدراليَّة أو النظام الاتّحاديّ هو مطلبهم الضمنيّ.

ربما يكون رئيس تيَّار المستقبل، الرئيس سعد الحريري قد أدرك هذا التوجُّه المسيحيّ (وربما قيادة حزب الله أيضًا). وربما كان هذا أحد أهمّ الأسباب التي دفعته – إضافة إلى أسبابٍ أخرى معروفة وغير معروفة- بعد رفضٍ طويل، إلى تبنّي ترشيح العماد عون للرئاسة الأولى، والقبول بتسويةٍ ثلاثيَّة الأبعاد تجمع ما بينه وبين التيَّار الوطني الحرّ وحزب الله. إنَّ هذه التسوية التي أُعلِن عنها أواخر صيف 2016 والتي أتى بموجبها العماد عون رئيسًا للجمهوريَّة اللبنانيَّة هي التي أعطت اتّفاق الطائف الأوكسجين الكافي ليستمرّ بالحياة. أمّا ما بعد سقوط هذه التسوية والانهيار التام الحالي الحاصل، السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا سيبقى من الطائف؟

بالتوازي مع هذا، هناك حراك مدنيّ-شعبيّ أيضًا انطلق العام 2011 تحت شعار “إسقاط النظام”، وتوضّحت ملامحه صيف 2015، حراك كان مطلبه الأساس إسقاط النظام الطائفيّ وبناء الدولة العلمانيَّة. ولم يترافق هذا الحراك بمطالب شعبيَّة فحسب، بل بمحاولات لتشريع الزواج المدنيّ في لبنان وشطب القيد الطائفيّ عن سجلّات النفوس. ثم كان 17 تشرين الأوَّل 2019 حيث انفجر اللبنانيُّون بوجه أطراف السلطة جميعًا تحت شعار “كلّن يعني كلّن”.

يبقى لافتًا، رغم كلّ هذا المخاض، ورغم كلّ هذه المسار التاريخيّ الذي فيه من الخيبات بقدر ما فيه من الآمال والتحدّيات، بقيَ لبنان الكبير صامدًا -هذا البلد الذي وصفه كثيرون بالخطأ التاريخيّ وبالكيان الاصطناعيّ- وها هو يحتفل بمئويّته الأولى. أمرٌ صادم حقًا، كيف استطاع هذا الكيان أنْ يمارس سحره على الأفرقاء الداخليّين والخارجيّين حتى يومنا هذا. لماذا يستمرّ اللبنانيَّون في العودة إلى هذا الكيان رغم كلّ خلافاتهم؟


[1]– كاظم الصلح، مسألة الاتصال والانفصال في لبنان، بيروت، 1936.

[2]– انظر نصّ هذا الميثاق في عصام خليفة، من الميثاق الوطني إلى الجلاء 1938-1946، بيروت، 1998، ص. 21-22.

[3]– حول ميثاق 1943 انظر باسم الجسر، ميثاق 1943، بيروت، دار النهار، 1997، طبعة أولى 1978.

[4]– انظر: أمين الياس، علمانية من عندنا، أفكار في الطائفية والعلمانية والدين والدولة مع مقدّمةٍ حول الصيغة اللبنانية، بيروت، دار سائر المشرق، 2017، ص. 22-23.

[5]– حول هذا الصراع انظر الكتاب المميّز للبروفيسور فريد الخازن، تفكّك أوصال الدولة في لبنان 1967-1976، ترجمه إلى العربية شكري رحيّم، بيروت، دار النهار، 2002.

[6]– حول مرحلة الحروب في لبنان والتي انطلقت شرارتها في العام 1975 انظر عبد الرؤوف سنّو، حرب لبنان، 1975-1990، تفكّك الدولة وتصدّع المجتمع،جزءان، بيروت، الدار العربية للعلوم ناشرون، 2008.

[7]– مجموعة مؤلّفين، لبنان مأساة نصف قرن، الكسليك، جامعة الروح القدس، 1975-1976.

[8]– حسين القوتلي، «عن الصيغة والخوف والمساواة»، السفير، بيروت، 18 أيلول 1975.

[9]– «الرسالة المفتوحة التي وجهّها حزب الله إلى المستضعفين في لبنان والعالم، مبيّنًا فيها تصوّراته ومنهجه»، 16 شباط 1985.

[10]– حول المشاريع الإسلامية المقترحة للبنان، انظر الكتاب الضخم الذي أعدّه كلٌّ من محمد شمص وحسين مرجي، الجمهورية الإسلامية في لبنان، خط بياني للمواقف منذ العام 1977، بيروت، المركز الإسلامي الثقافي، [دون تاريخ]، ثلاثة أجزاء.

[11]– إيلي الفرزلي، «رئاسة الجمهورية: نحو الشراكة الحقيقية»، محاضرة في مركز عصام فارس، سن الفيل، 22 تشرين الأول 2014.

[12]– جان عزيز،  «رئاسة الجمهورية: نحو الشراكة الحقيقية»، محاضرة في مركز عصام فارس، سن الفيل، 22 تشرين الأول 2014.

[13]– مقابلةٌ مع العماد ميشال عون، الجمهورية، 19 حزيران 2015.

[14]– «ورقة إعلان النوايا بين التيار الوطني الحرّ والقوات اللبنانية»، النهار، 2 حزيران 2015.

[15]– خطاب سامي الجميل عند تسلمه رئاسة الحزب، http://party.kataeb.org/detailssi.php?id=2831، 7 حزيران 2015… يتبع الجزء الثاني والأخير.

  • أمين الياس دكتور في التاريخ من جامعة لومان الفرنسية. هو متخصّص في تاريخ الأفكار في الفضائين العربي والمتوسطي، وأستاذ التاريخ والفلسفة في كلّية التربيّة في الجامعة اللبنانيّة، وأستاذ المواطَنية في الجامعة الأنطونيّة، وله العديد من المؤلفات باللغتين العربية والفرنسية.

Leave a Comment