كتب زكي طه
سريعاً طوى اللبنانيون السجال حول مفاوضات ترسيم الحدود مع الكيان الصهيوني، لتعود مسألة تشكيل الحكومة فتتصدر المشهد السياسي بكل ما يحتشد فيه من مناورات واجتهادات باسم الدستور والصلاحيات، تعكس توازنات القوى المحلية في إطار خلافاتها المستمرة على السلطة ومحاولاتها شراء الوقت، تهرباً من موجبات الاصلاح والإنقاذ على السواء، ما يبقي اللبنانيين أسرى الأزمات التي يستحيل تعدادها وحصر مفاعيلها الكارثية على أوضاعهم. إذا لا فائدة من تكرار توصيف الوضع الراهن، وتعداد المخاطر والصعوبات، وقد باتت أمراً مألوفاً ومعروفاً، ترددها ألسنة الداخل والخارج، وهي تطلق التحذير تلو الآخر من هول الكوارث التي تحاصر الكيان. بينما أهل الحكم وأطراف السلطة يتابعون الإيغال في سياساتهم وممارساتهم مستخفين بنتائجها المدمرة، في أداء لا زال يدهش الخارج ومعه أكثرية اللبنانيين، والمحصّلة وضعهم امام تحديات لا سابق لها والدفع بهم نحو المجهول.
لا يختلف الأمر عند استعراض تدخلات الجهات الخارجية في أزمات الداخل، سواء تحت عناوين اصلاحية وتكرار شروط المساعدة للدولة، أو دعماً للحلفاء بغية تعديل موازين القوى وتغليب فريق على آخر، في سياق التلاعب بالبلد وإبقائه ساحة للصراعات الإقليمية والدولية. والحلفاء هم اطراف السلطة الذين يستقوون بالخارج، ويشكلون نقاط ارتكاز لمصالحه وسياساته وتمكينه من استغلال أزمات الداخل وإدارة صراعاته.
والأزمات الراهنة كما التدخلات السافرة، بصرف النظر عن أشكالها وعناوينها ليست بالشيء المستجد لدى اللبنانيين. فعلى امتداد حقبات تاريخهم الحافل بها، وعلى رافعة الإنقسام الأهلي والطائفي الموروث والمستمر، عانوا مضاعفات انفجاراتها المتكررة سواء اتخذت شكل نزاعات محدودة أو حروب أهلية متعددة.
والانقسام الأهلي شكَلَ ولم يزل، العائق الرئيسي امام توليد هوية وطنية لبنانية، وجعل الانتساب للعروبة عبئاً عليهم بدل أن يكون مصلحة لهم. كما أنشأ حاجزاً مانعاً امام تكريس حق لبنان واللبنانيين بالاستقلال، وأغلق أبواب النظام على الإصلاح ما جعل آفاق التطور الديمقراطي مسدودة. والأمر مرده أن الإنقسامات التي يعاد انتاجها، كانت ولا تزال المعبر والركيزة الثابتة لتدخلات الخارج التي تحول دون الإفراج عن حقوق لبنان واللبنانيين في أن يكونوا شعباً كشعوب العالم، لهم هوية وطنية واحدة ووطن سيد مستقل.
وأزمات الداخل لا تقتصر المسؤولية عنها على الاطراف التي تعاقبت على السلطة، بغض النظر عن تبدل قواها وتنوع علاقاتها ورهاناتها الخارجية. بل تشمل أيضاً، قصور المحاولات الإصلاحية سواء كانت من داخل النظام وأطره المأزومة أو عبر الصدام معها، بنتائجها المحدودة أحياناً أو مفاعيلها التدميرية الهائلة لما كان تراكم من انجازات في كثير من الاحيان، بالنظر لما حفلت به من أخطاء وخطايا وما رافقها من تدخلات خارجية استباحت البلد، كما هو الأمر على امتداد الحرب الأهلية الأخيرة الممتدة منذ عام 1968، والتي لم تزل تتوالى محطات تحولاتها وتبدل قواها وشعاراتها ومعها فصول معاركها.
وفي سياق الإنقسام هذا، تقع إشكالية ترسيم الحدود مع العدو الاسرائيلي، والتي رسّم رئيس المجلس النيابي نفسه وبالتنسيق مع حزب الله، على امتداد سنوات طويلة، مرجعية وحيدة مطلقة الصلاحيات، للبحث مع الأمم المتحدة واميركا، في سبيل تحديد إطار التفاوض بشأنها. أما الإعلان عن إنجاز وتحديد موعد التفاوض والقبول بـالحليف الاميركي لإسرائيل وسيطاً، فقد أتى في غمرة إفشال المبادرة الفرنسية، وضمن السياق الإقليمي للتطورات المتعلقة بالصراع الاميركي الإيراني المحتدم، وقبل اسابيع قليلة من موعد الانتخابات الاميركية ومأزق رئيس الوزراء الاسرائيلي المتهم بالفساد. ما ينطوي على الكثير من الدلالات والاحتمالات التي يستهدفها الثنائي الشيعي ومن ورائهما النظام الإيراني المحاصر بالعقوبات سياسياً واقتصادياً ومالياً، بعد أن اختار عدم مواجهة التطبيع الخليجي مع الكيان الاسرائيلي برعاية وإدارة أميركية وبذريعة الخطر الإيراني.
مع غياب خطاب التخوين المعتاد وتحول اميركا وسيطاً مقبولاً، من الواضح ان المفاوضات التي أحيلت المسؤولية عن متابعتها إلى رئاسة الجمهورية، ستجري تحت رقابة الثنائي الشيعي وتحديداً حزب الله. وهو الذي يمتلك القدرة على تعطيلها ساعة يشاء، كي تبقى محكومة لمسارات الصراع والتفاوض الاميركي-الإيراني وما تحف بها من احتمالات شتى. ورغم أن ترسيم الحدود مع الكيان الاسرائيلي، في الأصل يقع في صميم القضية والسيادة الوطنية، ويتصل بالمصالح اللبنانية، فإن مسار المفاوضات ونتائجها، وعلى أهميته، سيبقى معلقاً على شماعة الانقسام الأهلي ومرتهناً لما يرتأيه الثنائي الشيعي في سياق تحكم الحزب بوضع البلد الذي تعصف به الأزمات والصراعات، وسط احتدام تدخلات دول الخارج ومحاوره المتصارعة، وأولويات مصالحها في السيطرة والنفط والغاز، إلى جانب الأمن الاسرائيلي وإعادة النظر بدور الحزب الإقليمي وسلاحه.
ولأن مفاوضات ترسيم الحدود ستبقى محكومة لمواعيد متباعدة نسبياً، وعلى قاعدة الغُرم على من يتولى مسؤوليتها، والغُنم للطرف المتحكم بمسارها باعتبارها قضيتة الخاصة، فقد تحولت سريعاً ملفاً جانبياً، لتتصدر الواجهة الأزمات التي تفاقم مستويات الانقسام الأهلي وتكرس الفوضى وتدفع بالانهيار الاقتصادي والمالي إلى مستويات قياسية عالمياً، وتسهيل عودة مسألة تشكيل الحكومة لتحتل الأولوية.
وبعد افشال المبادرة الفرنسية “الانقاذية”، ودفع الرئيس المكلف تشكيل الحكومة للاعتذار، عاودت اطراف السلطة سيرتها الأولى في تبادل تهم التعطيل واجترار مقولات الاصلاح الزائفة، في إداء رديء للتحايل على شروط الخارج، والإستهانة بتحذيرات مسؤوليه، كما بعقول اللبنانين وحقوقهم ومصيرهم. وفي هذا السياق انبرى رئيس تيار المستقيل لتسويق نفسه مرشحأ لرئاسة الحكومة بأي ثمن، باعتباره المنقذ من الجحيم الذي ساهم مع شركائه في دفع البلد إليه كما أعلن رئيس الجمهورية. فانتهي مكلفاً مكبلاً بشروط مختلف شركائه من قوى السلطة، في محاولة بائسة منهم لاعادة تنظيم علاقاتهم وتظهير التوازنات المختلة بينهم لمصلحة الثنائي الشيعي والرئاسة الأولى وتوابعها، والتواطوء على إدارة الانهيار عبر تشكيل حكومة محاصصة جديدة تتقاسم الوزارات، على قاعدة تسمية كل طرف لممثليه فيها، بعيداً عن مقولات الاصلاح والانقاذ.
جل ما في الامر محاولة مفضوحة لشراء الوقت بانتظار وضوح معادلات الصراع الدولي الإقليمي للسيطرة والهيمنة على ساحات المنطقة. اما اللبنانييون الباحثون عن بصيص أمل في الانقاذ، فهم امام تحدي البحث عنه بعيداً عن اطراف السلطة، بعدما فقدوا الثقة بهم جميعاً وقد خبروا جيداً وطويلاً سياساتهم وممارساتهم .
Leave a Comment