شكلت أزمة انتشار الوباء الفيروسي مخرجاً مؤقتا لقوى السلطة للتغطية على مضاعفات أزماتها العامة والخاصة على السواء. كذلك ساهمت أيضاً في تعميق أزمات البلد وانكشافها أمام الملأ. مما سرَّع بداية مرحلة الفوضى العارمة التي يصعب السيطرة عليها. خصوصاً في ظل إصرار أهل الحكم على الاستهانة بعقول اللبنانيين، والإمعان في تجاهل الآراء المعارضة لسياستهم، والاستخفاف بمواقف الجهات الخارجية وشروطها وتوهم إمكانية التحايل عليها، عبر الإكثارمن وعود بخطط للاصلاح لا وجود لها، بينما الممارسات اليومية تنتهك كل ما يتصل به.
كذلك فإن الإجراءات الهادفة للحد من انتشارالوباء، قدمت مخرجاً لائقاً للانتفاضة، التي كانت جولتها الاولى قد باتت في حكم المنتهية، جراء غياب الحد الأدنى من التنسيق السياسي والتنظيمي بين قواها، وفوضى الممارسات والتباين الواسع حول أسباب الانهيار وسبل معالجته، واصرار قوىً منها على مجاراة بعض تيارات السلطة الحاكمة والمتحكمة بالبلد التي تحصر المسؤولية عنها بالقطاع المصرفي وخصومها في آن. كذلك تراجع قدرتها في الضغط على السلطة بسبب شرذمة القوى وفراغ الساحات من أكثرية المشاركين في حراك الانتفاضة بعد نيل الحكومة ثقة مزورة من النواب، واقتصار التحركات على مجموعات ناشطة محدودة الوزن والفعالية. وهذا ما أراح السلطة ومكَّن بعض قواها من استغلال الانتفاضة، وتوظيف ما تبقى منها في الميدان للتعمية على قسطه من المسؤولية، ولتسويق طروحاته كما هو الحال بالنسبة لحزب الله والتيار الحر.
تفاقم الأزمات والحصار
لذلك لم يكن مفاجئاً تجدد الصراعات بين اهل الحكم، ضمن الفريق الواحد أو مع خصومه، حول التعيينات المالية والتشكيلات القضائية وعقدي الخليوي وصفقات مستلزمات مواجهة فحوصات الكورونا، وسط تفاقم أزمة الكهرباء، واستمرار تعطيل تشكيل الهيئة الناظمة وتعيين مجلس الادارة، وصفقات الفيول المغشوش وغيرها من القضايا. وهو الصراع الذي وجد اللبنانيون انفسهم مجبرين على متابعته من معازلهم القسرية داخل بيوتهم للإحتماء من الوباء. لقد ضاعف الخوف من الوباء، منسوب القلق لديهم حول سائر مصادرعيشهم، ومستقبل أوضاعهم مقيمين كانوا أو مغتربين، مع توالي فصول الانهيار الاقتصادي والمالي الكارثية، والتهديد بمصادرة الودائع في ظل تسارع انهيار العملة الوطنية، وانفجار الخلافات وتقاذف التهم حول المسؤوليات بين السلطات السياسية والمصرفية والمالية، بعيداً عن مآسي اللبنانيين وحقوقهم وحاجاتهم وظروفهم القاهرة.
فالعهد المحاصر بالأزمات والمكبل بالعزلة، يتوهم أنه قادرعلى تعويم موقعه، عبر خطاب بائس حول أزمات البلد وحصر أسبابها بقضية النازحين السوريين واللاجئين الفلسطينيين وسياسات خصومه في السلطة، وطلب مساعدة الخارج، وسط استسهال استمرار التهرب والتحايل على الشروط الاصلاحية التي تكرر الدول والهيئات المدينة والداعمة المطالبة بها، متعامياً عن المتغيرات الكبرى الناجمة عن أزمة وباء الكورونا ومضاعفاتها على أوضاع دول العالم الاقتصادية والاجتماعية والمالية. ورغم أن الشروط الاميركية للدعم والمساعدة باتت معلنة وصريحة، ووضوح الموقف الفرنسي أن لا مساعدات بموجب “سيدر”، والأمر برمته بات في عُهدة صندوق النقد الدولي، والجميع يطلب خطة واضحة المعالم معزّزة بالارقام الدقيقة والتفصيلية لمشاريع الاصلاح. فإن محاولة العهد وتياره تقع في إطار تقديم المزيد من اوراق الاعتماد لدى الاميركيين، الذين يريدون اخضاع البلد والجهة المتحكمة به وعدم الاكتفاء بما قدم كتبرئة العميل الفاخوري، وإعلان الاستعداد للتعاون مع صندوق النقد الدولي، أو التعهد بعدم اقصاء من يصنف مدعوماً اميركياً، كحاكم المصرف المركزي والنائب الثاني له وتأجيل التعيينات.
استعادة الصلاحيات وواقع العزلة
أما عزلة العهد وصهره المتلبّس موقع المرجعية الرئاسية، فمردها معاركهما تحت راية الدفاع عن المسيحيين وحقوقهم واستعادة صلاحيات الرئاسة، لتبرير الاستئثار بغالبية مواقع النفوذ والاستحواذ على اكثر التعيينات. الأمر الذي أدى إلى انقطاع الصلة مع غالبية مكونات البيئة المسيحية السياسية، بدءاً من القوات والكتائب والمستقلين، الذين تلازم تراجع دورهم مع انعدام ثقتهم بالعهد. مروراً بالمردة ومعركة الرئاسة المبكرة مع زعيمها. إلى العلاقة الباردة مع الكنيسة المارونية التي تراجع موقعها وغابت عنها الادوار الفاعلة في شتى الميادين، انتهاءً بالصراع المفتوح الذي تكثر تجلياته مع الموقعين المارونيين اللذين يلعبان دوراً استثنائياً في التركيبة اللبنانية، حاكمية المصرف المركزي وقيادة الجيش. ولأن الصراع لا علاقة لها بحماية المسيحيين وحقوقهم، بل بمدى طواعية شاغلي الموقعين لطموحات ولي العهد، فإن الحصيلة الإجمالية هي إضعاف المواقع المسيحية كافة خلافأ لادعاء تحقيق الانتصارات.
وما يؤكد عزلة العهد وتياره داخلياً، العلاقة مع قوى الطوائف الأخرى. فالقطيعة والخصومة التي تقارب العداء، هي النهج الغالب مع مكونات السنية السياسية، خاصة رؤساء الحكومات السابقين وتيار المستقبل الذي زاده ضعفاً خروجه من رئاسة الحكومة، بينما الهوامش الملحقة عديمة الوزن ولا تقدم إي إضافة للعهد، الذي يبقى هدفه إبقاء رئيس الحكومة الجديد، أسير دائرة الوظيفة التي حكمت الإتيان به، وأن لا يخرج عن سقف وصاية العهد التي يتقاسمها مع حزب الله. أما محاولات حصار الزعامة الجنبلاطية بالعداء لها، فقد وضعها في موقع الخصومة الصريحة معه، بعد تجاوزها ما شاب علاقاتها ببيئتها ومحيطها المتنوع طائفياً من ثغرات.
وبما أنه يصعب تغطية العلاقة المتوترة والخلافات المستحكمة مع الشريك المفترض في الحكم والحكومة رئيس مجلس النواب وحركة أمل الشيعية حول الصلاحيات والمصالح والادوار والنفوذ. فإن علاقة الشراكة مع حزب الله في الحكم، تحكمها معادلة تبادل الخدمات وتقبل الاختلاف المشروط بعدم تحوله خطراً على الادوار والاهداف الوجودية لكلا الطرفين. أما التجليات الدالة والمزمنة لعزلة العهد على الصعيد الخارجي، فتتمثل باستمرار انقطاع لبنان عن كل علاقاته الخارجية العربية والدولية.
ولأن عزلة وانعزال العهد مردها مأزق السعي الدائم للهيمنة، والدافع لتجديد طرح الفدرالية مخرجاً من المأزق ومدخلاً لتأبيد الانقسام على المستوى اللبناني من خلال معركة تكريس ولي العهد، الرجل القوي والمرشح الوحيد باسم المسيحيين للرئاسة. أما تصاعد أدائه العنصري، وردود فعل اللبنانيين حوله، فقد عكسه حال اللبنانيين حكماً ومجتمعاً مع وباء “الكورونا” والتعاطي بشأنه وكأنه آفة طائفية.
الثنائي الشيعي
أما حزب الله فقد وجد في محنة الوباء فرصة نموذجية، لتجاوز مضاعفات تبرئة العميل فاخوري وأكلاف دوره الخارجي وانعكاساتها على بيئته، فأخذ أمينه العام وضعية المرشد المقرر لسياسات الحكم والحكومة في آن، بشأن التعامل مع أزمات البلد، في ظل التخبط السائد وغياب خطط جادة ومسؤولة لمعالجتها. لذلك استغل الحزب فضيحة أداء وضعف امكانات الدولة لمواجهة الوباء، وعمد إلى استعراض إمكاناته وقدرته على تجهيز مستشفيات واقامة مراكز صحية، وتأمين آليات جاهزة للخدمة وحشد أجهزته الطبية والتمريضية والإدارية لها، لتأكيد تفوقه وسط دعوات شكلية للتنسيق مع مؤسسات الدولة تغطية للانفراد في المسؤولية عن مناطق نفوذه.
أما بشأن الأزمة الاقتصادية والمالية، وإلى جانب اعلان قبول الاستشارة والدعم غير المشروط سقفاً للعلاقة مع صندوق النقد الدولي، فقد حذّر أمين عام الحزب المصارف وحمّلها مسؤولية أساسية عن الانهيار المالي، مطالباً إياها بتحمل قسط وازن من سداد الديون المستحقة. أما معركة الرئاسة المبكرة، فلم يجد أنه معني الآن بتحديد موقف مع باسيل أو فرنجية، متجنباً الضغط على أي منهما لتقديم تنازلات حول التعيينات الخاصة بمصرف لبنان، مما استدعى تأجيلها. وهذا المسلك مرده في الاساس، حسابات الحزب وحاجته لإبقاء الصراع مفتوحاً بين الطرفين لتأكيد مرجعيتة وتحكمه بالنتائج عند اللزوم.
وإذا كان تصرف الثنائي الشيعي مع طرح الفدرالية ليس معها أو ضدها، انطلاقاً من تقدير لدى طرفيه كل لأسبابه برسوخ سيطرتهما الكاملة على بيئتهما، وامتلاكهما قدرة الهيمنة على الحكم ومؤسسات الدولة. لكن ذلك لا يلغي الخلاف الكامن والتباين القائم بينهما حول العديد من الملفات، وسعي كل منهما لتأكيد موقعه وطروحاته. وهذا ما عكسته أيضاً مراعاة رئيس حركة أمل للحريري وجنبلاط، والموقف من حاكم مصرف لبنان وعودة اللبنانيين من الخارج والعلاقة مع العهد والتيار.. علماً أن الحزب لا يخفي رؤيته حول معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية ومعارضته لنهج العهد وتياره، وغالبية اطراف الطبقة السياسية التي تلتزم مبادىء الاقتصاد الحر بصرف النظر عن اختلاف المصالح والسياسات والحسابات.
العهد والتيار والحكومة
ولأن رئيس التيار الحر يسعى إلى تحقيق ما عجز عنه مع الحكومات السابقة في المال والاقتصاد والكهرباء وشتى القطاعات الاخرى.. فهو يتصرف حيال الحكومة كمرجعية قادرة على توجيه الطلبات وتحديد القرارات الواجبة الصدور ورسم الخطّة التي يجب أن يتبناها مجلس الوزراء. ويعبر هذا المسلك عن طموحه لتصفية حساباته مع ما يعتبرها المنظومة السياسية ـ المالية القائمة منذ مطلع التسعينيات. وهذا بمجمله ينعكس تناغماً مع حزب الله، سواء لإعطاء الحكومة ورئيسها فرصة أو لحمايتها من السقوط لعدم وجود بديل.
أما الحكومة ورئيسها، فهما محكومان بعدم القدرة على اتخاذ القرارت، والانصياع لما يطلب منهما، كما عكسته القرارات والاجراءات الخاصة بمواجهة الوباء الفيروسي من مختلف النواحي. وهذا ما يؤكده العجز عن البت بالملفات الإصلاحية، والتخبط المستمر بشأن خطة المعالجة الاقتصادية والمالية، وتكاثر التسريبات التي تستهدف صغار المودعين اللبنانيين ونفيها في آن، وتعريض الغالبية منهم للإفقار وتحميلهم أكلاف ونتائج سياسات وممارسات قوى السلطة. أما اللجان الوزارية غير المنتجة، والتأخير بتقديم المساعدات المالية لمن هم بحاجة إليها، فإنهما يؤشران بوضوح إلى انعدام كفاءة رئيس حكومة الظل، وأدائه المشوب بمنحى الانتقام من القوى المعترضة على رئاسته وسياساته وممارساته. وما يؤكد ذلك هو استسهال الخضوع لطلبات العهد والتيار، والقبول بتنظيم اجتماع سفراء مجموعة دعم لبنان في ظل غياب خطة حقيقية، رغم معرفته بعدم ثقة هؤلاء بالمسؤولين اللبنانيين. والصمت عن الهجوم على مؤسسة طيران الميدل ايست في موازاة السكوت عن فضائح مؤسسة الكهرباء التي تحظى بأكثر مطالبات الجهات الدولية والمحلية بالتصدي لها. إضافة إلى الموافقة على اجراء تدقيق في حسابات المصرف المركزي وهو أمر بديهي، وعدم المبادرة لإقرار اجراء تحقيقات في حسابات سائر الوزارات والصناديق السوداء. انتهاءاً بإقرار مبلغ 625 مليون دولار لبناء سد بسري استجابة لرغبة ولي العهد.
مجلس النواب وتشريع التضليل
أما الوجه الأكثر بشاعة لقوى السلطة، فقد تمثل في نتائج جلسات مجلس النواب في قصر الاونيسكو، التي برّزت مستوى فجور الطبقة السياسية المتسلطة وفساد قواها الطائفية، وإمعانها في تجاهل الإنهيار المتمادي فصولاً، واستهانتها بحياة اللبنانيين وعقولهم، وأزماتهم المعيشية الخانقة، من خلال ترف التشاطر في تقاذف المسؤوليات وامتهان التعمية والتضليل من خلال فولكلورالتشريع المعتمد، وتقديم مشاريع القوانين وتحويلها إلى مقبرة اللجان، والتلهي بنقاشات ومناكفات كيدية حول قضايا هامشية بعيداً عما يواجهه اللبنانيون من أزمات. وهو الأداء الذي أعاد تأكيد انعدام حس المسؤولية الوطنية والانسانية لدى أكثرية النواب، ومدى الحاجة إلى نواب ينتسبون إلى المصلحة الوطنية حقاً وإلى هموم ومصالح الذين وثقوا بهم وانتخبوهم.
الصراعات ودروس الانتفاضة
وعليه، ليس مفاجئاً انفجار الصراعات السياسية بين قوى السلطة في الحكومة وخارجها، وانفلات الممارسات الكيدية واستهسال الفوضى الأهلية بكل ما تحمله من تداعيات ومخاطر إضافية جراء استحالة التوافق على خطة انقاذية. أما نتائج ذلك فهي لا تقتصر على تسريع وتيرة الاصطفافات الطائفية وتزخيم مشاريع الفدرالية، بل تتجاوزها، إلى إصابة مؤسسات الدولة بالعجز عن تأمين الحاجات الضرورية والخدمات الأساسية، في موازاة ترجيح تصعيد العقوبات الاميركية المالية واستمرار الحصار جراء إبقاء البلد ساحة صراع اقليمي. الأمر الذي أدى إلى انفلات سعر صرف الدولار، وانعدام السيطرة على الأسعار، وتصاعد معدلات البطالة والفقر والمشكلات الاجتماعية، وانفجار التحركات العفوية والمتنقلة، وتزايد الاصوات التي تدعو للعنف من اجل تأمين أبسط الخدمات ومتطلبات العيش، رغم تكاثر الجهات التي تتولى الإغاثة الاجتماعية للحد من مآسي تهرب الدولة وعجزها عن تحمل مسؤولياتها.
إن واقع الحال الكارثي، يستدعي من قوى المعارضة كافة، التحصّن بدروس الانتفاضة وما سبقها من تجارب، وعدم استسهال التغيير، في ظل غياب القوى المتضررة واصحاب الحقوق واهل المطالب. ويبقى الأساسي ضرورة العمل على صياغة برنامج نضالي واقعي يستجيب للتحديات الراهنة، قادرعلى استقطاب جميع الفئات المتضررة للمشاركة في الدفاع عن وجودها وحقوقها وضمانات عيشها، ومواجهة الاختناق الذي تقودهم صراعات قوى السلطة نحوه. وهذا يتطلب المبادرة إلى التشاور والتنسيق ضمن وجهة تستهدف تأسيس جبهة معارضة ديمقراطية مستقلة، قادرة على تنظيم التحركات الضاغطة ومحاولة الحد من الفوضى التي تدفع قوى السلطة أخذ البلاد والعباد إلى ميادينها التي تعيد انتاج قواها وإدارة صراعاتها بهم، بعيداً عن المصالح الوطنية للبلد، والدفع به إلى مدارات التفكك والانقسام وساحات الموت والدمار.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]