هل من المستطاع أن يكون الخيط الذي يربط الحراكات الشعبية في “الربيع الثاني” هو الولادة الصعبة لمفهوم الدولة الوطنية؟ ألا يصلح ذلك خطاً يربط أشياء متفرقة كالوفاة المعلنة للجمهورية الثانية في لبنان، والأفق الذي ترسمه المرجعية الشيعية العراقية وتيار مقتدى الصدر، إضافة الى الجزائر والسودان، وقبلهما تونس؟
من المهم التأمل في بعض الخلفيات. لنبدأ بسؤال عن مشروع الحداثة العالمي (وضمنه ما بعد الحداثة) الذي يواجه مرحلة حسّاسة في مهده الغربي، مع صعود الشعبويات المتصلة بمسألة الهويّات الإثنية والدينية والعرقية. يفترض بأن دولة الحداثة تستطيع استيعاب ذلك، خصوصاً أنها تملك تجربتها المريرة مع شعبويات القرن العشرين (كالنازية والفاشية)، وتملك ما يكفي لاستيعاب حساسية الشعبويات تجاه بروز الإسلام في داخلها (مثل: الاسلاموفوبيا). ويقود ذلك إلى السؤال المتواصل عن الحداثة العربية وعلاقتها مع الحداثة الغربية. إذ باتت العلاقة أكثر تشابكاً مع تنامي “القوة الناعمة” للمركز الغربي في ظل تصاعد ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطورة، والوجه النقيض فيه صعود الهويات والإثنيات عالمياً، وصولاً إلى الحضور الكثيف للإرهاب الإسلاموي (يمثّل جزئياً تفاعلاً سلبياً مع الحداثة). ليس مصادفة أن حراكات 2011 و2019، ترافقت دوماً مع قمع سلطوي للحق العام في الاتصالات الشبكية.
من الواضح أن الكلمات السابقة تفادت حصر النقاش في الدول العربية التي تشهد حراكات “الربيع الثاني”. إذ ثمة ما يشي بخيوط تربطها مع ما يحصل في إيران، بغض النظر عن الموقف من الدولة الدينية فيها وعلاقتها مع شعوبها.
استمرارية “الدولة” الإيرانية
تُذكِّر الإشارة الى إيران بالولادة المختلفة للدولة فيها، بالمقارنة مع نظيراتها عربياً. باختصار مؤسف، يمكن الإشارة إلى استمرارية في الدولة الإيرانية والصيغة الشيعية للسلطة فيها، منذ الدولة الصفوية (1501- 1732) وتبنيها تلك الهوية. لا مجال للتغلغل في تحليل تشابكاتها مع الفقة الشيعي الذي استمر في تفاعل فوّار مع الفقه السني، خصوصاً في زمن الإمام جعفر الصادق ونقاشاته، خصوصاً مع الإمام أبي حنيفة النعمان (المدرسة الحنفية)، و الإمام أبي حامد الغزالي الذي “يحلو” لمتطرفي الأصولية التكفيرية أن يغرفوا من مياهه ويتناسوا حواراته واعتداله، وضمنها مثلاً رفضه إدانة المتصوف الحلاّج بالزندقة والكفر.
وبعد الدولة الصفوية، ثمة تواصل في ذلك النسيج الذي من خيوطه الدور الفوّار للفقهاء في السياسة بمعناها العميق، في مراحل الدولتين الأفشارية والزندية (1732- 1796)، ثم القاجارية (1796- 1941)، والشاهنشاهية (1941- 1979). وبسرعة سيئة، يمكن الإشارة الى بعض المحطات التي تتصل بعلاقة مركبة (تصارع وتشابك) مع الحداثة الغربية فيها. ابتدأ الصراع في الدولة القاجارية مع دخول النفوذ الغربي إلى إيران، وحَصْد بريطانيا نصيب الأسد من الاستيلاء على الثروات الوطنية فيها (بمشاركة فرنسا وروسيا واليونان وأستراليا وغيرها). وإذ أدّى ذلك أيضاً إلى تحطيم بُنى الاقتصاد المحلي، برز تضافر بين قوى وطنية ليبرالية غالباً والفقهاء (مع التنبّه دوماً إلى خطايا الاختصار والتعميم، وغياب التعقيد). حدث ذلك للمرّة الأولى في “الثورة الدستورية” (1906) التي شهدت إضراباً تاريخياً أولاً للبازار وفرضت الدستور على الملكيّة. وفي التشابك، أن تأميم النفط بيد رئيس الوزراء الليبرالي محمد مُصَدّق في 1951 أيّده آية الله كاشاني، ثم انفرط تحالفهما، ما ساعد أميركا على قيادة حراك شعبي واسع أسقط مُصَدّق 1953. (اعترفت أميركا متأخرة بذلك في زمن الرئيس بيل كلينتون). وكذلك سعى الشاه محمد رضا بهلوي بعد طفرة النفط في 1973، إلى حداثة أوروبية مُسرَّعَة، فولّد تخلخلاً اجتماعياً، وتضررت مصالح البازار (خمسون ألف مؤسسة وربع مليون عامل عشية سقوط الشاه). وتضافر مرّة اخرى البُعدان الوطني والديني (إذ تضررا من حداثة محلية مشوهة)، في تأييد البازار لثورة الإمام الخميني. تذكير بأن التيار الوطني الليبرالي اصطدم مع طفرة حداثية سابقة للشاه في 1963، تضمّنت تغيير البُنى الزراعية وإعطاء حقوق انتخابية للمرأة. وآنذاك، تحالف المهندس محمد مهدي بازركان مع آية الله طالقاني لمواجهة تحديث مخلخل لبنى المجتمع، وكذلك شارك الإمام الخميني في المواجهة، ما أدى إلى نفيه.
لبنان يجدد الحداثة؟
في الجانب العربي، جاءت “صدمة الحداثة” في سياق انهيار الامبراطورية العثمانية وصعود حزب “الاتحاد والترقي” الذي تبنى حداثة قمعية، تضمّنت رؤاها أن الحداثة تتوافق مع استعمار الشعوب سيراً على ما فعلته دول حداثة أوروبا. وجاء التتريك مترافقاً مع سعي ذلك الحزب إلى إنهاء الخلافة الإسلامية. وتلا الإنهيار الزلزالي للامبراطورية العثمانية، ولادة أوطان المنطقة بالترافق مع تعميم الحداثة الغربية نموذج الدولة- الأمة. جاءت دول الحداثة العربية مشوّهة، بما في ذلك عدم عثورها على حلول للهويات والمكونات فيها. نمت الأصولية الاسلامية (خصوصاً السنية) ضمن صراع مع “الحداثة” ومثله المكثف صراع “الأخوان” مع الدولة الناصرية، واستمرارية إشكالية علاقة الأصولية مع الدولة حتى الآن. الأرجح أن ثمة سياقات مختلفة للأصوليتين السنية والشيعية في علاقاتهما مع الحداثة (ونسخها المحلية، وصدام “خاص” للأصولية السنية مع الحداثة الغربية)، ومع الدول الوطنية.
هل “الربيع الثاني” مفصل نوعي في تلك المسارات؟ في العراق، بعد دول الحداثة المحلية القمعية والمشوهة، ربما هنالك ولادة عنيفة نسبياً لمفهوم جديد للدولة العراقية، يظهر في الربط بين التخلّص من قوات الاحتلال الأميركي، وكذلك النفوذ الإيراني الفائق الحساسية في بُعده الديني والمذهبي. وثمة حوار “خفيض” مع تيار إسلامي سني عراقي، فهل يدقق في عصبياته تجاه المكونات الوطنية والعلاقة مع إيران؟ ثمة نغم حواري خاص في العلاقة بين تيار الصدر وقوى الحداثة العراقية (خصوصاً الحزب الشيوعي)، فهل يوصل الى صياغة نمط خاص من الحداثة؟
في تونس والسودان والجزائر (وربما المغرب)، تجري إعادة صياغة لدول الحداثة الفاشلة فيها.
في لبنان، يستمر تصادم الأصوليات الدينية مهدداً الحراك الذي ظَهَّر كتلة وطنية فاعلة. هل يعمق الحراك تأثيره في الكتل الطائفية، وتُصاغ حداثة جديدة بالترافق مع تجديد صيغة الدولة؟ ماذا عن امكانية تصادم الأصوليتين الشيعية والسنية؟ ماذا لو تصالحتا، ولو مؤقتاً؟ ماذا عن علاقاتهما مع بقية المكوّنات والأصوليات لبنانياً؟
[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]