سياسة

نزيف انتفاضة العراق الصامدة والأزمة السياسية المقيمة

لم تكتف تلك القوى بالتظاهر، إذ أضافت إليه اطلاق صواريخ الكاتيوشا على المنطقة الخضراء في بغداد، في محاولة لاستهداف السفارة الاميركية وتوجيه الأنظار نحو واشنطن وحرفها عن طهران التي تقود تفاصيل الهيمنة على القرار العراقي

أحد الشعارات التي رفعها المتظاهرون في بغداد يقول: “لا دولار ولا تومان… لا اميركا ولا ايران”. عبر هذا الرمز عن رفض العملتين الاميركية والايرانية عبّر المواطنون العراقيون عن رفضهم تحويل بلادهم إلى مجرد ملعب للمطامح والمصالح الاميركية ـ الايرانية المتضاربة، والتي دفعوا ويدفعون من دمائهم ومستقبلهم ثمناً لوقائعها اليومية. والواقع أنه تحت هذين الرمزين المشار إليهما عاشت ساحات وميادين التظاهرات منوعات من القمع لم تشهد مثيلاً لوقائعه أي من تظاهرات العالم. والتفنن في العمل على وأد الانتفاضة، لم يترك جديداً الا وجربه، بدءاً بفرق القناصة ومجموعات اطلاق النار” غير المنضبطة” إلى الاغتيالات بكواتم الصوت والاختطاف والزج في المعتقلات والقتل العشوائي لكل من يجروء على المشاركة ورفع صوت الاحتجاج على استباحة العراق من جانب القوتين المهيمنتين وأدواتهما المحلية.

لكن هذا كله لم يفت في عضد المنتفضين الذين وسعوا ساحات المواجهة إلى مختلف المحافظات والقطاعات العراقية دون أن تردعهم شلالات الدم. مئات القتلى وألوف المعتقلين وعشرات ألوف الجرحى كانوا ضحية القمع العاري بدءاً من البصرة جنوباً وحتى العاصمة بغداد وما بينهما من مدن وأرياف. وخلال الموجة الجديدة انضوت مدن لم يسبق لها المشاركة. وهذا يؤكد الاصرار على المطالب المرفوعة والتي تحددت في الساحات والميادين العامة مطالبة بتسمية رئيس جديد ومؤقت للحكومة،على أن يكون مستقلاً عن أطراف السلطة وأحزابها، ومحاكمة كل من تولى قمع التظاهرات وأعمال القتل على ما اقترفه من جرائم بحق العراق والعراقيين. لكن هذا الاصرار على المطالب المعروفة ما زال يصطدم بجدار السلطة التي تواصل الرهان على نجاح القمع، وهو ما تجلى بعودة القنّاصة وفرق الاغتيالات للناشطين وتوسع عملياتها نحو مختلف المدن والمحافظات. ولعل الأكثر دلالالة هو ما أقدم عليه مجلس الأمن الوطني للقوات الأمنية عندما سمح لهذه القوى باعتقال كل من يقطع الطرق أو يغلق الدوائر الحكومية، ودعوة المحتجين إلى التزام ساحات التظاهر وعدم الخروج إلى الطرقات وقطعها، ما دفع المتظاهرين إلى ملء ساحات وميادين وشوارع الزبير وأم قصر والعشار وشط العرب وسفوان والهاشمية والناصرية وسوق الشيوخ والغراف والمجر والمشخاب وبدرة والسماوة والكوت وعلي الغربي والحلة والكوفة وكربلاء والنجف والكحلاء والديوانية والعمارة والحمزة والصويرة، وبلدات ومدن مختلفة جنوب العراق ووسطه، فضلاً عن بغداد و… وقد غصّت الشوارع والساحات بالمتظاهرين الذين نجحوا في قطع عشرات الطرق الرئيسية، خصوصاً المؤدية إلى العاصمة بغداد وموانئ البصرة البحرية وحقول النفط وغيرها.

أي أن السلطة بدل أن تعمد إلى امتصاص غضب الشارع من خلال التحرك نحو إيجاد حل سياسي للأزمة، وإحالة المتهمين بالقتل العمد من رجال الشرطة والميليشيات للقضاء عمدت إلى منحها المزيد من حرية القمع بهدف ترهيب الانتفاضة، وإرغام قواها على الإنكفاء أو دفعها نحو حلقة العنف، حتى ولو كان الثمن تدمير البلاد وتشريد العباد.

لكن الأمر لم يقتصر على الجانب الداخلي من الأزمة عبر تصعيد وتيرة القمع، إذ ما تزال المحاولات محمومة لتكريس العراق ساحة للمواجهة الايرانية ـ الاميركية. وهو ما تطمح له القوتان، ولاسيما المرتبطة بايران التي بادرت إلى تنظيم تحركات وتظاهرات تحت شعار اخراج القوات الاميركية من العراق، وهو ما لم يقد إلى نتائج ملموسة تصرف الناس عن المشاركة في التحركات الاستقلالية التي تشهدها مختلف المدن العراقية. بل بات لقب “الذيول” – من ذيل- لصيقاً بالتابعين للأجندة الايرانية الذين تعرضت مقارهم الحزبية في العديد من المدن للاحراق على أيدي المتظاهرين. ولم تكتف تلك القوى بالتظاهر، إذ أضافت إليه اطلاق صواريخ الكاتيوشا على المنطقة الخضراء في بغداد، في محاولة لاستهداف السفارة الاميركية وتوجيه الأنظار نحو واشنطن وحرفها عن طهران التي تقود تفاصيل الهيمنة على القرار العراقي.

والملفت أن جملة هذه المناخات، لم تدفع بالقوى السياسية الممسكة بزمام الأمور إلى الحسم في التوجه نحو الاتفاق على اسم رئيس الحكومة المرشح لرئاسة الحكومة، بعد أن فشلت المحاولات الايرانية للمجئ بتابع لها لمواصلة سياسة استخدام بغداد متراساً أمامياً للدفاع عن طهران واستنزاف مقدرات البلاد. وبناءً عليه، ظلت مخرجات الحوارات السياسية غير حاسمة. ولم تنجح الأشهر الثلاثة المنصرمة في التوصل إلى اعلان اسم مقبول، بعد أن رفضت جماهير الساحات الأسماء الحزبية المطروحة بالنظر إلى تاريخها “الناصع”. ومع أن الرئيس العراقي برهم صالح قد عاد عن اعتكافه ورجع إلى بغداد وطوى تلويحه بالاستقالة، إلا أن الحوارات والاجتماعات المكثفة التي عقدها مع قادة الكتل والأحزاب السياسية، من أجل التوصل إلى حلول بشأن اختيار رئيس الوزراء الجديد، لم تصل بعد إلى خواتيمها اتفاقاً على أحد الأسماء المرشحة، والتي باتت كما تؤكد المعلومات محصورة بثلاثة مرشحين على ما يبدو الآن. على أن الاحراج الفعلي لا يتناول رئيس الجمهورية بالتحديد، بل الكتل والكيانات السياسية  ومجلس النواب التي عليها أن تختار مرشحاً مقبولاً من المنتفضين أولاً ومن الطرفين الخارجيين الممسكين بزمام الأوضاع. لكن المشكلة تبدو هنا في قدرة العديد من الكتل السياسية على استخدام “حق النقض”، متى وجدت أن المطروح لا يتلاءم مع توجهاتها ومصالح القوى التي تدين لها بالولاء. وتبعاً لوضع معقد على هذا النوع تفشل المحاولة إثر أخرى بالنظر إلى رفض بعض الكتل هذا الاسم أو ذلك. والمفارقة أن مؤشر بورصة الترشيحات تتذبذب صعوداً وهبوطا في اليوم الواحد أكثر من مرة. فالمرشح الأوفر حظاً في المساء يصبح مستبعداً في الصباح، وبالعكس أيضاً. وتبعاً لمثل هذه التغيرات اليومية غير المستقرة على اسم يعود البحث دوماً إلى المربع الأول. ومعه يتواصل نزف الشباب العراقي دماً وجراحاً واغتيالات ومفقودين، ويرافق كل ذلك خسارة المزيد من مقدرات البلاد وطاقاتها وفرص الاصلاح التي فتحت أبوابها انتفاضة لا تهدأ أو تلين.

[author title=”محرر الشؤون العربية” image=”http://”]محرر الشؤون العربية [/author]