الوضع الاقتصاديّ اليوم:
منذ تشرين الأول الفائت، شهد لبنان تراجعًا حقيقيّا في تدفّق الرساميل إليه، تساوق ذلك مع تراجع مخيفٍ للاستثمارات، يقابله تسارع متنامٍ لتدفقات الرساميل والإيداعات نحو الخارج، وزيادة كبيرة في الدين العام وخدمته، ما دفع بمصرف لبنان إلى بذل جهود مرتفعة الكلفة لجذب واستقطاب تدفّقات ماليّة من الخارج، لتغطية الاحتياجات التمويليّة السنويّة المتنامية، ما جعله عرضة للتأثّر بالصّدمات الخارجيّة، خصوصًا ما هو إقليميّ منها، في ظلّ سياسة ماليّة غير مستدامة، خاضعة لتقلبات الظروف الداخليّة والخارجيّة.
إنّ ما تقدّم وضع لبنان أمام ثلاث أزمات متزامنة مع بعضها البعض، تتراوح بين أزمة في ميزان المدفوعات، نتج عنها صعوبة في سداد الدين الخارجيّ، ونقصاً في السّلع المستوردة، وتراجعاً في قيمة الليرة اللبنانيّة وبالتالي انكماشاً في الاقتصاد، وأزمة في الماليّة العامّة، نتج عنها، تراجع في الإيرادات المحقّقة، وتهاوي الإنفاق نتيجة التضخّم وفقدان الليرة ما يزيد عن ٤٠٪ من قيمتها، وصعوبة في تمويل العجز والدين العام، وأزمة في النّظام المصرفيّ، نتج عنها، معاناة المصارف من عدم الملاءة (أي انعدام القدرة على الوفاء بالالتزامات الماليّة تجاه المودعين أو المُقرضين)، والشحّ في السّيولة، على الرّغم من القيود التي وضعتها المصارف لتقييد حركة الأموال – وهي عمليّا غير فاعلة ـ وتقييد حركة التعاملات المصرفيّة داخليّاً وخارجيّاً، مترافقة مع تقييد على أموال المودعين في المصارف، في ظلّ عدم قدرة مصرف لبنان على تزويد المصارف بالسيولة الضروريّة خوفاً من نفاذ احتياطياته المحدودة بالعملة الصعبة، وهو ما من شأنه أن يؤدّي إلى إضعاف الليرة اللبنانيّة أكثر ممّا هي عليه، الذي يفضي بدوره إلى تراجع القدرة الشّرائيّة للمواطنين نحو الحضيض.
مسارات الأزمة الاقتصاديّة:
المسار الحالي للأزمة الاقتصاديّة سيدفع إلى المزيد من التأزّم على الصعيد الاجتماعي، الذي سيدفع بدوره إلى تعقيد الوضع السياسيّ، وسيؤدّى إلى ركود اقتصاديّ واسع، وشحّ في الدولار، وتراجع في الواردات، والمزيد من القيود على حركة الأموال، والتعاملات المصرفيّة، والمزيد من الصعوبات أمام القطاع الخاص، الذي سيؤدّي إلي المزيد من إقفال المؤسسات والشركات، وتسريح المزيد من العمّال والموظّفين، مع تراجع قدرة الليرة اللبنانيّة على الصمود في ظلّ الضغط عليها، وصولا لخسرانها أكثر من نصف قيمتها، إذا ما استمرّ وجود سوقين موازيين لسعر الصّرف، ووضع المضاربات على ما هو عليه، وسيرتفع معدّل التضخّم، وترتفع معه أكلاف المعيشة، وسيقلّ توافر السّلع والمواد الغذائيّة في الأسواق، كما ستتراجع الرعاية الصحيّة وسترتفع معدّلات البطالة.
هذا، وستستمرّ المصارف بتقنينها على السحوبات والتحويلات الخارجيّة، وقد يكون هناك تخلّف عن سداد الديون، ومع طول وقت الأزمة، وغياب الحلول، سيستنزف مصرف لبنان احتياطياته؛ وسيتسبب ذلك بتراجع في أوضاع الطبقة الوسطى، ويزيد معدّل الفقراء بشكل غير مسبوق قد يصل إلى حدود ٥٠٪ من اللبنانيين، ما يرتّب تداعيات وخضات أمنية يصعب احتواؤها أو السيطرة عليها نتيجة الفوران الاجتماعيّ، ولن يكون بمقدور الأحزاب الحاكمة السيطرة على الوضع نظرا لتخطيه حدودًا غير مسبوقة، وستدفع ثمن سياساتها التي اقترفتها أيديها.
العلاج:
يمكن علاج الوضع الذي تقدّم وصفه من خلال استبدال الإجراءات الاستنسابيّة التي أخذتها المصارف دون مسوّغات قانونيّة، بأخرى قانونيّة، من خلال اصدار تشريعات واضحة تحدّد حركة تقييد الأموال والتعاملات المصرفيّة، وتدار بإجراءات واضحة وشفّافة ومراقبة وعلنيّة، على أن يرافقها تعليق سداد الديون الدّاخليّة والخارجيّة، والتفاوض على قائمة من التّنازلات من الدائنين بما فيها خفض رأس المال الأصليّ ومعدلات الفائدة وتمديد فترات الاستحقاق، مترافقة مع انعطافة جذريّة في الانفاق العام (انفاق الدولة)، والهدر، والفساد، وإعادة حوكمة قطاع الكهرباء، ووضعه على السّكة الصحيحة، وإجراء إصلاح جذري في الاقتصاد للحدّ من الرّيعيّة، على أن تترافق مع زيادة الإنفاق الاجتماعيّ، والبنى التحتيّة، وإصلاح واسع في إيرادات الدولة بما يشمل جميع القطاعات والتهرّب الضريبي، وخصوصا القطاع غير المهيكل، وإصلاح الإجراءات الضريبيّة وتوحيدها، والحدّ منها قدر الإمكان، والتركيز على تحصيل الواردات، ووضع سقف محدّد لعجز الموازنة ومنع تخطّيه تحت أيّ ذريعة.
واستكمالا في المعالجة لا بدّ من دراسة الشركات في القطاع الخاص، وتصفية ما هو منها غير قادر على الاستمرار أو إعادة هيكلته ودمجه، لا سيما منها شركات الأموال وخصوصا المصارف التي يفترض تخفيض أعدادها من خلال دمج بعضها ببعض، وإعادة رسملتها عبر الطلب من المساهمين الحاليين زيادة رأسمالها.
إنّ المحافظة على الأمان الاجتماعي يجب أن يكون من الأولويّات، ويتطلّب ذلك توزيع الخسائر المقبلة بشكل عادل، أي أن تقع على كاهل الأفراد الأكثر ثراء في لبنان وليس على صغار المودعين، ويتطلّب أيضًا مكافحة الفقر ودعم الخدمات التربويّة والصحيّة ومساعدة انتقال العمال (عبر التأهيل والتدريب) من قطاع الخدمات والتجارة المترهّلين، إلى قطاعي الزراعة والصناعة اللذين سيستفيدان من انخفاض أسعار الصّرف والتسهيلات لينتعشا من جديد، مضافًا إلى ذلك، إعادة النّظر في سعر الصّرف وإدارته بدراية وحكمة على المدى المتوسّط وصولا إلى تحريره بُعيد توازن الاقتصاد والسّوق.
وأخيراً، لا بدّ من إنشاء صندوق يخصّص للاستقرار الاجتماعيّ والإصلاح الهيكليّ، يمكن استخدامّ أمواله المقدّرة بين ٢٥ و٣٠ مليون دولار لرفع الاحتياطيّات الصافية لمصرف لبنان، للمساهمة في تمويل احتياجات الحكومة العاجلة المرتبطة بالموازنة، وتمويل الانفاق الاجتماعيّ، والمساعدة على إعادة رسملة المصارف، ويمكن تأمين أمواله من البنك الدوليّ، والاتحاد الأوروبيّ، ودول مجلس التّعاون الخليجيّ وغيرها من المصادر.
خاتمة:
إنّ أي تأخير في معالجة الوضع القائم سيؤدّي إلى زيادة العبء على اللبنانيين أضعافاً مضاعفة، وبالتحديد على الفئة المتوسّطة والضعيفة منهم، ولن يكون بمقدورهم تحمّل تبعات التأخير، مما سيولّد المزيد من المآسي، وبالطبع المزيد من الآلام والأوجاع، التي ستبرز في الشارع بأشكال مختلفة عنفيّة وغير عنفيّة، ستهدّد السّلم الأهلي والدولة معاً، وتخلّ بالوضعيّة الاجتماعية وتدفع بها نحو التطرّف بأبعاده المتنوّعة، فتصعّب الحلول المستقبليّة، ولكن إن استُعجل في الحلّ أمكن إنقاذ الوضع، إنّما مع قليل من المعاناة والآلام، هي مرحلة تتطلّب صبراً، لكنّها في نهاية المطاف، تأخذ اللبنانيين نحو مستقبل أفضل.
[author title=”الدكتور سعيد عيسى” image=”http://”]كاتب وباحث لبناني متخصص في شؤون الحوكمة والانثروبولوجيا الاقتصادية[/author]