لنستعد جيداً للآتي في تونس. لننس قليلاً قعقعة السلاح والمفاوضات بين مضيق هرمز وشواطئ المتوسط والأطلسي، على الرغم من امتلائها بمسارات ربما تنحفر طويلاً في الجغرافيا السياسية والمجتمعية والثقافية.
ماذا يحدث في تونس؟ لماذا تنتقل “حركة النهضة” إلى ترشيح عبد الفتاح مورو، وهو شيخ مساجد معمم، إلى الرئاسة؟ لماذا الآن وليس قبل ذلك؟ هل يتعلق الأمر بمجرد حسابات سياسيّة، خصوصاً سقوط بقايا البورقيبية السياسية التي باتت متوزعة بين حزبي ورثة الراحل قايد السبسي، ورئيس الوزراء يوسف الشاهد، أو أنها تستعد لجولة اخرى مع دولة الحداثة التي ابتدأت مع الحبيب بورقيبة بعد الاستعمار الفرنسي؟ هل يتعلق الأمر بمسار فصل دولة ما بعد “ثورة الياسمين” عن الإسلاموية، وبالتالي تعميق التحوّل في الإسلام السياسي صوب قبول الفصل بين الفضاء المدني (والدولة) وبين الفضاء الديني؟ بقول آخر، هل تحاول “حركة النهضة” الرد على النهوض المتسارع للمواطنة المتساوية (من دون تمييز في الدين والجنس والعرق وغيرها) المستندة إلى الدستور والكيان الحقوقي للمواطن- الفرد، وفق ما ظهر مثلاً في “تقرير الحريات والمساواة- 2018″، ما يجعلها شكلاً مبتكراً فعلياً للدولة العلمانية في المنظومة العربية؟
ربما يجدر عدم الاستخفاف بمسألة مثل الإرث المتساوي للإناث والذكور، أو طرح حرية المعتقد أو حق المسلمة في زواج مدني من كتابي، أو غيرها من المواضيع الساخنة في تونس ما بعد “ثورة الياسمين”. الأرجح أن تلك الأمور تشكّل تحدياً للإسلام السياسي (كي لا يتحوّل إلى إسلاموية متطرفة وخارجة عن الزمن)، وكذلك تمثّل تحديّاً للحداثة العربية المدعوة إلى إعادة ابتكار نفسها كي تنجز صوغ حداثة وعلمانية تكون مؤسّسة ومستندة إلى الخلفية الثقافية (بما فيها الأديان) لمجتمعاتها وتنجح في غرس تلك الحداثة والعلمانية في مجتمعاتها. [هل هناك أمور مشابهة تحدث في السودان؟].
سؤال العلمانية
الأرجح أنه منذ دخول فكرة العلمانية إلى العالم الإسلامي، اتّخذت معانٍ متباينة لدى الإسلاميين والعلمانيين. حملت العلمانية التحديث والتحرر من البنى السلطوية في المجتمع، والتحرر من القيود الدينية، في عقل العلمانيين. ورأى الإسلاميون في العلمانية تغريباً وخضوعاً للهيمنة الامبريالية الغربية. وتالياً، لم يتعدّ النقاش عن العلمانية بين الطرفين صيغة “حوار الطرشان”. إذ وجّه الإسلاميون تهم العمالة للغرب إلى العلمانيين، فيما رد الأخيرون بالتشديد على أن الإسلاميين يسعون إلى إرساء سلطة دكتاتورية بإسم الدين.
هل دار نقاش مُجدٍ فعليّاً بين الطرفين؟ أحياناً، ذهبت بعض أفضل الأصوات أدراج الرياح لأنها تجرأت على تعميق النقاش إلى حد طرح سؤال عن أسسه كلها. يبرز في ذلك السياق مثلاً، صوت المفكر الجزائري محمد أركون (خصوصاً في كتابه “قضايا في نقد العقل الديني”) بأن الإسلام أقرب إلى الغرب منه إلى الشرق، ما يعني رفض ثنائية إسلام- غرب في الاتجاهين. إذ لفت إلى أن القرآن أقرب إلى المُركّب المسيحي- اليهودي (وهو أساس النسيج الثقافي الفكري للغرب، بل ساجلت الحداثة مع ذلك المُركّب تحديداً، في سياق صوغها مشروعها الإنساني المستمر منذ أكثر من 4 قرون)، فيما يخلو من كل رابط مع الأديان الشرقية مثل البوذية والهندوسية وغيرها من الأديان في الشرق الأقصى. إذ لا تظهر في الأخيرة مثلاً الرمزية المتعالية، بمعنى عدم مركزية مفهوم اللـه فيها. أبعد من ذلك، يرصد أركون أن المركب المسيحي- اليهودي تفاعل مع الفلسفة الإغريقية التي تميّزت بأبعادها الميتافيزيقية المتمحورة حول خالق أعلى. [تذكيراً، في فلسفة أرسطو مثلاً، هناك مركزية لواجد الوجود الذي يوجد بنفسه، ويكون سبباً لكل وجود ولا يوجده أحد، ولا سابق على وجوده شيء، بل هو قديم قِدَماً مُطلقاً، بمعنى كان منذ الأزل ويبقى إلى الأبد. وكذلك يصفه أرسطو بأنه سبب الأسباب كلها (= علّة العلل، وفق مصطلحاته)، والعقل المطلق الذي “تقتبس” عنه العقول كلها، بطريقة أو اخرى. وفي فلسلفة أفلاطون رمزانية مركزية مشابهة، لكن عبر مقاربة فلسفية مغايرة. وكذلك انخرطت الفلسفة الإغريقية في توصيف العلاقة بين اللـه- الخالق والعالم].
اضطهاد “مزدوج” للفلسفة الرشدية
وِفْقَ أركون أيضاً، شهد المُرَكّب المسيحي- اليهودي، تفاعل قوي ليس كله إيجابي، بل ابتدأ بالرفض واعتبار الفلسفة هرطقة، قبل أن تتقبل الكنيسة أفكار أرسطو وأفلاطون، بعد صراع طويل. ويرصد أركون أيضاً أن الإسلام شكّل أيضاً جزءاً من الغرب ومشروع الحداثة فيه عبر نقل الفلسفة الإغريقية إليها في العصور الوسطى. وكذلك ينقل عن الباحث الفرنسي آلان دوليبرا في كتاب “الفلسفة في القرون الوسطى”، أن استرجاع الأوروبيين لإسبانيا تلته عملية تثاقف ضخمة في العالم الغربي الناطق باللاتينية، على الرغم من محاكم التفتيش واضطهاد اليهود والمسلمين في اسبانيا. وفي أقل من ثلاثين سنة، تدفقت على أوروبا الشمالية أجزاء كبيرة من الثقافة التي أمضى العرب ثلاثة قرون في تحصيلها. وانتقلت حركة الدراسات والترجمة والبحوث من بغداد وقرطبة إلى باريس وأكسفورد وبولونيا وبادوا. وتحوّل ابن رشد المُغترِفْ من أرسطو، إلى تيار فلسفي يدرس في السوربون وغيرها من الجامعات المسيحية اللاتينية تحت اسم الفلسفة الرشدية “أفوررويزم”، فيما تخلى عنه العالم الإسلامي وأحرق كتبة. ولم يجر انتقال الفلسفة الإغريقية والعربية إلى أوروبا من دون صراع ضارٍ. ومثلاً، أصدر مطران باريس ايتيان تامبييه في 1270، فتوى بإدانة أفكار الفلاسفة العرب ومتّبعيهم من الفلاسفة الاوروبيين. واستُهدِف بذلك المفكر سيغيير دوبرابان، أحد الرشديين المشهورين في السوربون، ما اضطره إلى الاختفاء والهرب إلى إيطاليا حيث قضى في ظروف غامضة. وليس ذلك سوى مثل صغير عن المعركة الضخمة من أجل حرية الفكر والمعتقد التي أرستها الحداثة في الغرب.
في تلك الحقبة عينها، انهارت الحقبة الكلاسيكية الفوّارة في الحضارة العربية- الإسلامية، مع سقوط بغداد بيد المغول، والقطيعة التي انهت المناظرات الخصبة بين السنة والشيعة. وسار الفقه الإسلامي تدريجياً نحو جمود تلاه صعود فقه التكفير. هل تنجح تونس في ضخ ماء التاريخ الحي داخل ذلك الجمود المديد؟ أين “حركة النهضة” في ذلك الشأن؟
[author title=”أحمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]