زهيرهواري
بيروت 13 نيسان 2024 ـ بيروت الحرية
يتضاعف تردي الوضع الاجتماعي في البلاد، ولا تنجح الحلول الترقيعية التي تتولاها الحكومة في وقف مسار الانحدار لدى أوسع فئات المجتمع اللبناني، وبالتالي إنقاذ الناس من الهوة التي يسقطون في حفرتها يوما بعد يوم، والتي تزداد عمقاً كلما تأخرت الحلول الإصلاحية والجذرية الفعلية. ويبدو تبعاً لحالة الوضعين السياسي والاقتصادي أن ما ينتظر البلاد ليس إقرار الحلول المطلوبة، بل المزيد من التراجع في ظل التدهور الإضافي في أداء مؤسسات القطاع العام، وجشع القطاع الخاص، بالاستناد إلى ما آلت إليه المعارضة المفقودة والحركة العمالية والنقابية من إلتحاق وتبعية لسلطات الامر الواقع الطائفية.
ومما لا شك فيه أن العنصر المقرر هو توسع الهامش بين ما يتقاضاه اللبنانيون من أجور ورواتب على ما يمارسونه من أعمال، وبين ما تتطلبه نفقات الأسر من أثمان تتصاعد يوميا للمأكل والمشرب والملبس والكهرباء والماء والصحة والتعليم والمواصلات وغيرها من نفقات. على أن ما تقدم عليه حكومة تصريف الاعمال يضاعف باب زيادة الأعباء المفروضة دون أي تقديمات تذكر. آخر المآثر كان تصحيح الحد الأدنى للأجور في القطاع الخاص ورفعه إلى 18 مليون ليرة، أي بما يعادل مائتي دولار، ولعل الفضيحة التي تضمنها المرسوم أنه أسقط مبلغ 9 ملايين ليرة كتصحيح للأجور جاءت في النص الذي ارسلته الحكومة لمجلس شورى الدولة ووافق عليه وورد في البند الثاني، لكنه ألغي بقدرة قادرين، ما أدى إلى التلويح العمالي بالتحرك في حال لم تنجح الاتصالات باستعادة ما سبق وجرى الاتفاق عليه. ثم هناك الرسوم والضرائب التي أقرتها الحكومة في موازنة العام 2024 وهي التي صبت الزيت على نار التردي من خلال النسب الخيالية التي فرضتها على كل واحدة منها، بدءا بأبسطها مما يحتاجه المواطن يومياً، إلى ما يتجاوز ذلك من معاملات معقدة. وبذلك تضافرت على إرهاق المواطن الدولة والقطاع الخاص معاً، الذي يعمد بدوره إلى رفع أسعار السلع والحاجيات، دونما ضرورة للتذرع بتراجع سعر صرف النقد الوطني مقابل الدولار الأميركي كما كان يشاع سابقاً. فالدولار منذ أشهر طويلة ثابت، ولكن الأسعار تتحرك صعوداً باستمرار بالنظر للجشع الممارس من جهة التجار، وغياب الرقابة الفعلية القادرة على لجم التفلت من جهة ثانية. أما إدعاء وزير الاقتصاد أن دولرة الأسعار هي التي ضبطت الوضع فليس سوى اصطناع بطولات وهمية لا محل لها. بالطبع يعمد التجار إلى الإفادة من أي توتر محلي أو إقليمي أو دولي لفرض أسعار جديدة لسلع قديمة حصلوا عليها قبلاً. وينطبق ذلك على الوضع السياسي الداخلي الجامد في موضوع الانتخابات الرئاسية. حتى أن الموضوع قد أخلى سبيله ولم يعد ينتظر أي مستجدات لا من اللجنة الخماسية ولا من سواها. وكأن اللبنانيون قد استسلموا للأمر الواقع وارتضوا بقاء بلدهم دون رأس للسلطة. وما يقال عن الرئيس المغيب يقال مثله عن الحكومة التي لا تجتمع إلا بعد مساومات وصفقات بين أركانها وتسويات ومحاصصات تتم على حساب ما جاء في دستور الطائف، وفقا لمنطق تسيير المرفق العام على نحو فعلي. ولا يختلف وضع المجلس النيابي عن سواه من مؤسسات السلطة، ليس فقط لعجزه عن الالتئام وانتخاب الرئيس العتيد، بل لمحاسبة الحكومة على أدائها المتعثر، وللقيام بواجبه التشريعي، وخصوصاً في المسائل التي تتطلب صدور قوانين جديدة، أو إحداث تعديلات على قوانين قديمة. وينسحب وضع مؤسسات الدولة السياسية على باقي مرافق الإدارة العامة التي تعايشت مع الشلل، حتى بات بمثابة شريكها الدائم في مختلف المجالات، وقد بات الكثير منها يخضع لوصاية مافيات مشتركة بين القطاع الخاص وأحزاب قوى السلطة الميليشياوية. ولا يحتاج المرء إلى جهد كبير لاكتشاف ما يجري في قطاع مولدات الكهرباء وأسعار المحروقات وأدوية الامراض المزمنة وغيرها من السلع الأساسية.
قوانين السوق وقانون العمل؟
الثابت أن ما أقدمت وتقدم عليه الدولة وخصوصا ما يسمى ببدلات النقل والمساعدات الاجتماعية أو المنح التي تعطى لاصحاب الرواتب والأجور لقاء أيام عمل شهرية لا تتجاوز الـ 14 يوماً ، والتي لا تدخل في صلب الرواتب وتعويض نهاية الخدمة، فضلاً عما ما زالت تعانيه الصناديق الضامنة من أعطاب، يقود إلى حلقة الانهيار الراهنة، والتي لا تقتصر على القطاع العام، بل تشمل القطاع الخاص، الذي وإن كان بعضه قد دولر ما يدفعه من أجور، إلا أن معظم المؤسسات تتذرع بالأوضاع الراهنة لممارسة الصرف الكيفي، وتعمد إلى تقليص انتشارها وفروعها، وتتمنع عن دفع بدلات عادلة لعمالها وموظفيها مستندة إلى ما يعانيه سوق العمل من عرض فائض على طلب متقلص باستمرار. والأخطر هو إلغاء الكثير من المكتسبات التي كان يتضمنها قانون العمل لصالح علاقة أقرب إلى العبودية من العقود الحرة للعمال. وقد وصلت لدى بعض الشركات والمؤسسات والقطاعات إلى التخلص من عقود العمل الجماعية وما تتضمنه من حمايات، وإلى رفض إفادتهم من الضمان، وإلى أكثر من 10 ساعات عمل ورفض دفع بدل المواصلات وغيرها. ولعل أبسط نموذج ما عاناه المعلمون وأساتذة القطاع الخاص الذين وقعوا ممثلين بنقابتهم على وثيقة اتفاق مع أصحاب المؤسسات التربوية من هيئات – طائفية عموماً – وأفرادية بحضور وزير التربية والتعليم العالي من أجل دفع نسبة مئوية بسيطة تحول إلى حسابات التقاعد لتأمين حصول المتقاعدين منهم على الحد الأدنى الذي يؤمن لهم أبسط متطلبات العيش، ولكنهم رغم التوقيع قامت مؤسسات كبرى “محترمة” منهم بالتراجع، ورفضت دفع المبالغ المطلوبة منهم، ما دفع النقابة إلى التلويح بالاضراب وتهديد مصير العام الدراسي.
82% من اللبنانيين فقراء؟
الواضح أن الموضوع برمته ينطلق من سؤال عن الجهة التي يجب عليها أن تدفع ثمن الانهيار المالي الذي سقطت في لجته البلاد منذ العام 2019، فأرباب القطاع المصرفي بالتضامن والتكافل مع أرباب السلطة السياسية والذين أكلوا الأخضر واليابس يرفضون تحمل عبء الانهيار، ودفع ضرائب تتناسب مع ما حققوه من ثروات وتراكم مالي. ولا مانع في ظل هذا المنحى أن يدفع الفقراء عبر الضرائب غير المباشرة أعباء تأمين مالية الدولة. المراهنة الكبرى من جانب هاتين السلطتين تمثلت في استدرار تقديمات ومساعدات خارجية. ولعل نموذج ما شهده القطاع التعليمي هو أبرز دليل على هذا التوجه. فقد حاولت الدولة ممثلة بمجلس الوزراء تحميل عبء فارق الرواتب للمعلمين للجهات المانحة التي تتولى تعليم أبناء النازحين السوريين. وأدى ذلك إلى تأخير العام الدراسي لطلبة القطاع العام اللبنانيين وللسوريين إلى أشهر عدة. أكثر من ذلك يتعثر دعم وإسناد الفئات الهامشية التي تتلقى مساعدات من وزارة الشؤون الاجتماعية. وتعتمد عملية تمويل هؤلاء على الأموال التي يرصدها البنك الدولي. وهنا نتحدث عن الفئات الهشة التي تعمل على هامش سوق العمل. فتبعاً لما أعلنه وزير الشؤون الاجتماعية هيكتور حجار تزداد نسبة الفقراء في لبنان منذ الانهيار، حتى يومنا هذا»، وأن “نسبة الفقر متعدد الأبعاد بين اللبنانيين وصلت إلى 82 في المئة، في وقت يرزح فيه 32 في المئة تحت فقر مدقع”. وتستفيد 75 ألف عائلة لبنانية من البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً، لكن وبعد التخفيض الكبير الذي طال التمويل (انخفض من 147 مليون إلى 33.9 مليون دولار) باتت الوزارة مضطرة لخفض المبلغ الذي يتم تحويله، علماً بأن التمويل المتاح لهذا البرنامج لا يتجاوز شهر حزيران.
ويستفيد من برنامج «أمان» 93500 عائلة. ويتقاضى المنتسبون إلى البرنامجين منذ انطلاقهما المبلغ نفسه، وهو 25 دولاراً للعائلة، و20 دولاراً للفرد، لـ6 أفراد كحد أقصى. وتسعى الوزارة إلى تحويل أعداد ممن كانوا يستفيدون من البرنامج الأول إلى الثاني، بسبب تراجع التمويل الخارجي.
ويعتبر ملف برامج الدعم والمساعدات الاجتماعيّة في ظلّ تحجيم دور الدولة الاجتماعيّ، من أكثر الملفات الّتي تحتاج إلى نقاش لجهة قدرتها على مساعدة الأسر الفقيرة لمواجهة الأزمة الاجتماعية. ودوما كانت عقدة الأزمة تتمثل في عمليّة صرف المساعدات هل بالليرة اللّبنانيّة أم بالدولار الأميركي. هذا الجدل كان يخفي توجهاً نحو تقليص الميزانيّة المُخصصة لبرامج الدعم، وأبرزها “أمان”، وصولًا للمماطلة في تنفيذ المشروع لأكثر من سنتين. أكثر من ذلك لقد شاب المشروع الكثير من الاقوال التي وضعت المستفيدين منه في خانة الولاء السياسي لجهات أحزاب السلطة النافذة ما حرم مستحقين فعليين من الحصول على المساعدات.
فتش عن مصدر الخلل
اذا كان مصدر الخلل الفعلي هو غياب أي مشروع إصلاحي للسلطة سواء على الصعيد السياسي أم على المستوى الاقتصادي، فما يحدث على الصعيد الفعلي يقود إلى الجزم بمعضلة لا تجد علاجات ولو بدائية لها. فما يجري منذ سنوات هو أن الاقتصاد النقدي الأسود يكتسح الاقتصاد الحقيقي الذي يسجل خطوات تراجع واضحة. ومن المعروف أن الاقتصاد الأول يصعب إن لم يتعذر ضبط خطواته وفرض الضرائب عليه. ويواجه هذا الاقتصاد قطاعاً غير شرعي يتعاظم ثقله في الاقتصاد إلى حد أن وزنه بات يقارب ما بين 65 و70 بالمئة من حجم السوق، وهو منافس حقيقي للقطاع الشرعي على صهيد جميع السّلع والخدمات التي تدخل إلى البلاد بعد أن تفلت من دفع الرسوم والضرائب، لذلك تباع بأسعار مستورداته أرخص من مثيلاتها اللبنانية. ما يعني أن الدولة لا تضبط معابر التهرب والتهريب الشرعية وغير الشرعية على حد سواء “. وبناء على ما يجري من محاصصات تكاد تطيح بالبقية الباقية من شرعية مؤسساتية يمكن توقع أن يتمكن القطاع غير الشرعي من الإطاحة بالاقتصاد الشرعي من مدخل مضاعفات التهرب من دفع الضرائب، ما سيدفع إلى المزيد من تغول الاقتصاد غير الشرعي عبر انضواء أعداد إضافية من التجار والمستوردين إلى صفوف المتهربين من دفع الرسوم للدولة. وعندها يدخل هؤلاء في منافسة مع من تبقى من تجار يدفعون الضرائب ويبيعون سلعهم بأسعار أقل من الأسعار الرائجة في السوق. والمؤكد أن التهرب والتهريب الجمركي يؤدي إلى منافسة غير عادلة وخسائر مالية فادحة للشركات الملتزمة بالقوانين”.
يمكن أن نضيف إلى ما ورد أعلاه كم المخاطر المحدقة بالوضع اللبناني من بوابة الجنوب، فالامر لا يقتصر على ما يعانيه الجنوب من خسائر بشرية فادحة وأضرار في الممتلكات والمحاصيل الزراعية ومصادر العيش ليدفع ذلك كله إلى رسم صورة قاتمة لما ينتظرنا في القابل من الأيام ليس بفعل الخطر الصهيوني فقط، بل نتيجة هيمنة سلطة سياسية – مالية لا تعبأ بما تعانيه البلاد من مخاطر تكاد تطيح بالبقية الباقية من مقومات بقائها. ومن كوارث لن تطال فقط الطبقات الفقيرة بل ممن ما زال يعتبر في عداد الطبقة الوسطى التي يتقوض كيان بقائها على قيد الحياة يومياً من مداخل فقدانها ركائز مواقعها بما هي خسارتها مداخيلها ومواردها وضماناتها والخدمات التعليمية والصحية التي كانت تحصل عليها.
Leave a Comment