يبدو أن طبول المفاوضات لم تقرع بعد، رغم تعدد وتنوع الوسطاء بين الولايات المتحدة الاميركية وايران. المناوشات الحربية لم تتوقف منذ مطلع شهر أيار الماضي لدى بدء الدفعة الثانية من العقوبات الاقتصادية على ايران، والتي تهدف إلى تصفير صادرات ايران النفطية وبالتالي حرمانها من هذا المورد الرئيسي لتغطية نفقاتها. اميركا أرسلت ببوارجها وحاملات طائراتها وجنودها وأسلحتها التكتيكية إلى منطقة الخليج، وايران بدورها ـ تبعاً للإتهامات الاميركية والسعودية ـ قامت عبر أذرعها بتفجير أربعة من ناقلات النفط، إثنتان منها للسعودية وثالثة للامارات العربية ورابعة للنرويج، ثم أضافت إليها تفجير خطي نقل للنفط من الحقول السعودية الشرقية نحو الغرب بطائرات مسيرة عن بعد، انطلقت من المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون في اليمن، معطوفاً على الصاروخ البالستي الموجه والذي تم تدميره بواسطة الصواريخ المضادة قبل أن يصل إلى مكة. وكذلك اطلاق صاروخ على السفارة الاميركية في بغداد. وعلى الرغم من التصريحات السياسية الصادرة عن الإدارة الاميركية وبعض المسؤولين الايرانيين من أن لا حرب في المنطقة، إلا أن المراقبين شرقاً وغرباً يطرحون السؤال التالي: هل المنطقة على مشارف حرب لا مفر منها بين إيران والولايات المتحدة أم أن الأمر لن يتعدى المناوشات التي سيعقبها الاتصال بين الرئيس حسن روحاني والاميركي دونالد ترامب تمهيدا لجلوسهما على طاولة المفاوضات السياسية.
في الأيام والأسابيع السابقة تسارعت وتيرة الحوادث التي تنفخ في نار التوتر الأميركي ـ الايراني. فالإدارة الاميركية أدرجت في 8 نيسان (أبريل) الحرس الثوري الإيراني على لائحة المنظمات الإرهابية، ثم أعلنت في 22 منه إلغاء الإعفاءات النفطية من العقوبات، وهذه الاعفاءات خوَّلت سابقاً دولاً مثل تركيا والصين والهند والعراق شراء النفط الإيراني من دون الخضوع للعقوبات النفطية والمصرفية الاميركية.
وقد ارتفع مستوى التوتر بين الطرفين منذ مطلع أيار بعد أن وسعت اميركا من دائرة سياسة الحصار عندما أضافت قطاع الفولاذ والحديد الايراني الذي تبلغ نسبته من الصادرات الايرانية الإجمالية حوالي 11 %، ما يعني أن الحظر جاوز الخمسين بالمئة من مجمل هذه الصادرات. ثم أرفقت ذلك كله بأن أرسلت تعزيزات عسكرية إلى المنطقة بعد تلقي معلومات استخبارية مفادها أن هناك تحضيرات ايرانية عبر أذرعها لتوجيه ضربات للمصالح الاميركية، ما استدعى منها إعادة دبلوماسييها وخبرائها غير الأساسيين من عدة دول أبرزها العراق، ومن المعلوم أن جملة العقوبات من شأنها أن تفاقم معضلة الاقتصاد الايراني في أعقاب انسحاب اميركا من الاتفاق النووي الذي وقعته الدول خمسة زائد واحد مع ايران في العام 2015، ما سيقود إلى ارتدادات بالغة السلبية على مستوى الصادرات والورادات والوضع المعيشي وقيمة العملة التي خسرت أكثر من 60 في المئة من قيمتها في عام واحد، وشارفت نسبة التضخم على تجاوز 31 في المئة في 2018، مع ما يرافق ذلك من “شد الأحزمة أكثر فأكثر في إيران والمنظمات التي تمولها” وارتفاع الأسعار والغلاء وتراجع مستويات العيش بدليل تضاعف سعر اللحوم ثلاث مرات في غضون عام واحد وغيره من السلع.
راهن الايرانيون منذ البدابة على كل من الصين وروسيا وأوروبا أن تعمل معاً، أو كلاً على انفراد لكسر الحلقة الثانية من منظومة الحصار الذي تتعرض له، لكن فألها خاب. فالصين التي حصلت العام الماضي على حوالي نصف الصادرات الايرانية من النفط (حوالي 580 ألف برميل يومياً) لم تبادر إلى توقيع أي عقد مع ايران خلال العام 2019، وعمدت الشركات والمؤسسات الصينية إلى غلق أبوابها وتجنبت أي نشاط علني أو توسيع متاجرها في المدن الإيرانية، بما فيها شركة هواوي العملاقة للهواتف المحمولة، وكذلك فعلت شركة لونوفو التي طالما جعلت من دبي محطة لوصول منتجاتها الالكترونية إلى إيران، وهكذا كانت الشركات الآسيوية تنسحب من إيران على وقع الضغوط والتحركات الأميركية. وبدوره أورد موقع فوربس لائحة بأبرز الشركات الاوروبية والأسيوية التي غادرت ايران منذ فرض العقوبات الاميركية عليها، ومنها توتال وبيجو الفرنسية، وميركس للنقل البحري، وجنرال إلكتريك الاميركية التي شاركت منذ 2016 في مشاريع للبنى التحتية النفطية الايرانية وبلغت عائداتها من عقودها هناك 25 مليون دولار، وشركة هانيويل الدولية، وبوينغ، ولوك أويل الروسية، ودوفر، وسيمنس وريلاينس، وهواوي، بينما قلصت سامسونغ الكورية الجنوبية من أعمالها.
التصريح الذي أدلى به رئيس الوزراء الروسي بوتين أسقط التعويل الايراني على روسيا في إنقاذها مما تتخبط فيه، لكن ما ذكره بوتين من أن بلاده لا تستطيع أن تستمر بلعب دور الإطفائي أدى إلى تكامل حلقة الحصار، فالصين تخلت عن مرور مشروع طريق الحرير في الموانئ الايرانية، وروسيا لم تنجد حليفتها. أما أوروبا فقد اقتصر موقفها على حثها على استمرار اعلان التزام الاتفاق النووي، وشجب الانسحاب الاميركي الأحادي منه.
الايرانيون عوّلوا سابقاً على قرب الانتخابات الاميركية ورحيل ترامب عن البيت الابيض في العام 2020، وهو ما يمكن أن يوصف بأنه رجم بالغيب، باعتبار أن تحسن الاقتصاد الاميركي وشعبيته يمكن أن يقود إلى عودته ثانية إلى سدة الحكم في البيت الأبيض محاطاً بطاقم من صقور الإدارة الاميركية. كان رد طهران بداية يقضى بوقف تصدير فائض اليورانيوم المخصب والمياه الثقيلة، مع إمهالها الدول الخمس الشريكة في الاتفاق النووي مدة شهرين قبل أن تستأنف تخصيب اليورانيوم على مستويات عالية تخولها الانتقال الى الاستخدام العسكري. وأكملت ذلك بتغييرات في الحرس الثوري زاد من حضور ووزن المتشددين، في خطوة بدت وكأنها تمهيد لخوض الصراع المكشوف مع الولايات المتحدة.
باختصار يمكن القول أنه على رغم التصريحات التي تتحدث عن الرغبة في تجنب خيار الحرب من الطرفين، إلا أن ما يوازيه هو الحديث عن تغيير قواعد الرد والردع التي قد تتوسع من جبهة الخليج لتصل إلى قلب المنطقة العربية في سوريا ولبنان والتي تشمل الكيان الاسرائيلي ما يوسع مساحة الحريق الذي يلوح دخانه في الأفق. يبقى السؤال حول مدى اختلاف الرسائل المعلنة عن تلك المتبادلة عبر الوسطاء ومسارات التفاوض التي لم تنقطع يوماً؟
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]