الأرجح أن تصل هذه الكلمات إلى القراءة وهي متأخرة عن ايقاع موضوعها. إنه الدرس الأول والأبسط في التاريخ: لا يسير الزمن بالايقاع نفسه دوماً، وفي زمن التغييرات الكبرى، ربما تسابق الأيام القليلة سرعة الضوء فتكون سنوات أو عقوداً. والأرجح أن الحراك الشعبي في السودان سيكون قد سجل انتصاراً أولاً لما يمكن تسميته، بتفاؤل لا ينسى التحفّظ، موجة ثانية من “الربيع العربي” (أو “الربيع العربي-2”)، خصوصاً مع تذكّر أن التسمية تشير إلى تزامنه وتفاعله مع الحراك المذهل في الجزائر. في حراكي الجزائر والسودان، ثمة ملامح يصعب عدم التوقف عندها، لكن الحديث عنها يجدر به أن يسير بتحفّظ كبير أيضاً لأن الصورة الفعليّة عن الحراكين لا زالت بحاجة إلى مزيد من الوضوح، لكن هنالك فوارق كبرى بين “الربيعين” يصعب التغاضي عنها.
لنبدأ من سلمية الحراكين التي يجدر بقوى اليسار والحداثة أن تتعمق في فهمه. لم تكن السلطة في السودان بعيدة عن المبادرة إلى امتشاق السلاح في وجه الحراك الذي استُهِل في كانون أول 2018، بل سقط عشرات الشهداء والجرحى في صفوف المنتفضين. أصرتْ قوى التغيير في السودان على السلمية، ونجحت في فرضه على السلطة. كيف يبدو الأمر بالمقارنة مع سوريا مثلاً التي يتكرّر في صفوف “ربيعها” الحديث القمع المسلح للحراك المدني السلمي، بوصفه سبباً (أو مبرراً) لعسكرة ذلك الحراك، مع ما جرّه من سيطرة قوى الاسلاموية المتطرفة عليه؟ كيف تبدو المقارنة نفسها بين الحراكين، بالنسبة لمسألة الأحزاب وقيادة الحراك وغيرها؟ في “الربيع” الأول، بدت الشوارع العربية كأنها تتحرك عفوياً وشعبياً، وقيل أنها تجاوزت الأحزاب كلها، وجرى الحديث عن دور قوى ما بعد الحداثة على غرار الحديث الواسع عن تأثير “فيسبوك” وانتشاره في مصر مع “ثورة 25 يناير”، وهو أمر تكرر في بدايات الحراك في سوريا. لكن، ألم تظهر مؤشّرات بعد ذلك عن مدى علاقة “الربيع العربي-1” بالإسلام السياسي وأطيافه الواسعة؟ ما هو الدرس الذي استفادته قوى الحداثة العربيّة، خصوصاً اليسار من ذلك الأمر؟
شعبوية أوروبا وقيادة ترمب
يمكن الذهاب بالتفكير حتى بعلاقة “الربيع الثاني” الغامض مع الأحزاب، مع صعود الحراك الشعبوي الذي يجتاح أوروبا كلها، ويتحدّى بنى الحداثة فيها.
في ذلك المنحى، ربما يكون مفيداً أيضاً الإشارة إلى آراء ربطت تلك الشعبوية الأوروبيّة مع صعود ظاهرة الـ”سوشيال ميديا”، وهو أمر إشكالي تماماً. ألا يعني ذلك أن الثقافة العميقة للشعوب التي عاشت تجارب متألقة في الحداثة الغربية، بقيت في منأى عن التشرّب العميق للمشروع الكبير للعقلانية الإنسانيّة في الغرب؟ أليس ملفتاً أن يكرّر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون المناداة بالرجوع إلى القيم الأساسية للحداثة، ضمن مواجهته مع شعبوية “السترات الصفر”؟ من ناحية ثانية، هل يمكن إغفال التأثير الأميركي الواسع (المستند إلى شعبوية أميركية يكثفها الرئيس دونالد ترامب) في الشعبوية، خصوصاً مع السعي المعلن من قِبَل إدارة ترامب لقيادة الصعود الشعبوي في أوروبا؟ قبل أيام، أعلنت مجموعة كبيرة من أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا، وهي القيادة السياسية للشعبوية الأوروبية، تحالفها على المستوى الأوروبي، مع ظهور المساهمة الكبيرة لستيف بانون، المستشار الخاص لترامب في ذلك.
في أوروبا، هناك شعبوية تقودها أحزاب يمينية متطرفة تتقاطع أو تتماهى مع تيار نظير لها في أميركا. يعني ذلك أن المستوى السياسي للحراك الأوربي الشعبوي واضح في قواه الحزبية المحلية وتحالفاتها الإقليمية والدولية. لا مجال للحديث عن مجرد عفوية وتحرك شعبي تلقائي وغيره.
في “الربيع” الأول، لم يكن الحديث عن العفوية والتلقائية إلا تهليلة قصيرة، تلاها بسرعة ظهور الاسلاموية وتنظيماتها (خصوصاً “الاخوان المسلمون”)، مع تحالفاتها الإقليمية والدوليّة، الممتدة من تركيا إلى أميركا مروراً بأوروبا.
غربة اليسار والإسلاموية
ما هي الأمور في مساراتها الفعليّة في “الربيع العربي” الثاني؟ من الواضح في السودان أنّ تنظيم “الإخوان” ليس في مركز الحراك، على رغم أن علاقته الملتبسة والمتبدلة مع الرئيس المخلوع عمر البشير، تشير إلى مساحات غامضة في موقع ذك التنظيم. الأهم، أن “الإخوان” في السودان ليسوا جزءاً من “قوى إعلان الحرية والتغيير” التي تتألف أساساً من “تجمّع المهنيين السودانيين” (وهو ائتلاف لقوى اجتماعية مدنية) وقوى “نداء السودان” التي يتوسّطها “حزب الأمة” بقيادة رئيس الوزراء السابق الصادق المهدي الذي أطيح به عبر انقلاب قاده في 1989 الجنرال عمر البشير بالتحالف مع “الإخوان”، خصوصاً الراحل الشيخ حسن الترابي. بقي حزب “المؤتمر الشعبي” (أسسه الترابي) محتفظاً بعلاقات مع البشير، بل كان له وزيران في آخر حكوماته. ويتمثّل تنظيم “الإخوان” في السودان أساساً بحزب “الجبهة الإسلاميّة القومية” التي دعمت البشير، قبل أن ينفصل عنها مشكّلاً حزب “المؤتمر الوطني” الذي انهار مع سقوط البشير.
في المقابل، هل إصرار المهدي على عدم الدخول إلى السلطة الجديدة، هو مجرد حذر تقليدي، أو صدى للانقسام السني بين الختمية- الميرغنية (يعبر عنها حزب الاتحاد الديمقراطي وتفرعاته) وبين “الأنصار” التي يستند إليها المهدي؟ (نفتح قوسين للقول بأن هناك صعود للصوفيّة في الحراك السوداني يجدر رصده بانتباه، خصوصاً في علاقتها مع إبن عربي والمذهب الشيعي، امتداداً إلى زيدية اليمن). هل يقدر ذلك “الخليط” الذي يشدد على التديّن الفردي، على نسج خيوط مع مفهوم المواطن في الحداثة؟
في “نداء السودان”، تبرز أحزاب اليسار والحداثة العربية، خصوصاً الحزب الشيوعي (إضافة إلى قوى ناصرية وبعثية)، لكن دورها لا يبدو محورياً. كيف يفكر اليسار في ظاهرة “قوى المجتمع المدني”، في ظل تجربة “تجمع المهنيين”، مع تذكّر النفور التقليدي بين الطرفين؟ هناك خيط مشترك بين ابتعاد /إبعاد اليسار والإسلامويّة سويّة عن حراك السودان (وبدرجة أكثر غموضاً بكثير في الجزائر)، ربما يمكن التقاطه في تشديد الحراكين على مطلب الدولة المدنية المستندة إلى المواطنة. الإسلامويّة بعيدة عن ذلك المطلب، فماذا عن التفكير به بالنسبة اليسار العربي (وتجاربه مع الدولة والسلطة؟
[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]