لم يكد ينتهي موسم الفراغ الحكومي الطويل، وتنتهي حفلة التعارف بين وزراء حكومة العهد القوي الأولى، بأخذ الصورة التذكارية التي جمعتهم مع الرؤساء الثلاثة، حتى عاد كل طرف إلى متاريسه ومعه وزراؤه. سريعاً تجدد موسم الردح المتبادل بين مختلف الفرقاء، لم ينتظروا نيل الثقة المكفولة التي يمنحوها عادة لذواتهم، سواء للتهنئة بالشراكة الجديدة في تقاسم السلطة والغنائم، أو لكفاءتهم في تكريس الإختلاف والخلاف حول القضايا الكبرى والصغرى، التي تبرر وجود كل منهم. أما ما يرد حولها في البيان الوزاري من تعهدات أو التزامات فهو لزوم ما لايلزم لأنه لا يلزم أحداً بشيء. كما لا يشكل مصدر اطمئنان للبنانيين الذين لم يفاجأوا وهم يشاهدون تبادل تهم التخوين والفساد وتقاذف المسؤوليات، في مسرحية رخيصة تعكس ثقافة الانحطاط السياسي السائدة بين أهل الطبقة الحاكمة وتدلل على مستوى الإنهيار العام الذي حل بالبلد على أيديهم، حيث أحسن ممثلوهم في توصيفه وتباروا في هجائه والتحذير من مخاطره.
لم يساور أهل الحكم أي مخاوف بشأن الثقة، لأنها تقع في باب تحصيل الحاصل بالنسبة لهم، وما يرد في المناقشات لايعدو مجرد كلام يسجل في المحضر. فالتوافق على المصالح والسياسات قائم، والاختلافات الكبرى يتحكم بمجرياتها القيّمون على قوى الداخل وملاحقهم. لذلك لم يكن مفاجئاً لأحد أن يترافق إعلان تشكيل الحكومة التي تعددت تسمياتها وتوصيفاتها وأدعياء توليدها، مع توافد أوصياء الخارج مسبوقين برسائل التهنئة والتهديد. فجأة أزدحمت جداول مواعيد الرؤساء واشباههم من قادة الأحزاب لاستقبال المبعوثين، بدءاً من الأميركي إلى الإيراني والسعودي وغيرهم من السفراء، الذين يحملون عروضاً تشمل المال والسلاح والتجهيزات وكل ما يخطر على البال من مضمرات التهديد والترغيب، بما يرضي أتباع الداخل ويعزز قدرتهم على خوض السجالات والصراعات، في الموسم القادم على البلد، الذي يبدو أنه سيكون عسيراً على اللبنانيين، خاصة الغالبية منهم الذين يقع على عاتقهم وحدهم تحمل كلفة الأضرار ما سبق منها وما هو آت، وقد بشّر به البيان الوزاري ونطقت به ألسنة المسؤولين.
وإذا كان أوصياء الخارج بعجلة من أمرهم، فإن قوى الداخل لم تجد مبرراً لإضاعة الوقت. لذلك سريعة كانت مبادراتها لفتح الملفات وإعلاء راية الخلافات ونصب المتاريس. من أجل استطلاع ردود الافعال تمهيداً لرسم خرائط الطرق المتشابكة وتنظيم الجبهات. وعليه جرى تبادل فتح المعارك حول موقع لبنان الإقليمي وملف النازحين والعلاقة مع النظام السوري، إلى قضايا الاقتصاد من مقرارات “سيدر” إلى ملفات القضاء والتوظيف في الإدارة، مروراً بمعارك الصلاحيات سواء على صعيد الرئاسة الأولى أو رئاسة الحكومة والوزراء إلى دور مجلس النواب. أما تبادل التهم المرافق لمسيرة حكومة الوفاق المفقود، فإن الحاجة إليه لا تنتهي لأنه السلاح الأمضى للتعبئة وشد العصب الطائفي والفئوي للأنصار بالنظر إلى اهميتهم عندما تدعو الحاجة لهم.
لا يشكك غالبية اللبنانيين بقوة أركان الحكم وقواه، وقدرتهم على التلاعب بالبلد والدفع به نحو المجهول. ولا يغيب عن بالهم أن هؤلاء يسعون إلى الحكم ويتشبثون به ويتصارعون حوله، في سبيل مصالحهم الطائفية والفئوية. كما يعرفون أن جميع قوى السلطة هم المسؤولون عن كل الأزمات، لكنهم يختلفون في توزيع أقساطها، لأنهم موزعو الولاءات والأهواء نتيجة تلك السياسات. كذلك فإن الاكثرية منهم تعلم أن الوعود والتعهدات بالإصلاح ومكافحة الفساد التي يتكرر إطلاقها لا يراهن عليها.
وحدهم المتضررون من السياسات المعتمدة، من يدفع أكلافها ويتحمل أعباء ما تنطوي عليه من تجاوزات على ابسط حقوقهم الانسانية منها أو المكتسبة، وهم من يتلقى نتائجها إفقاراً وبطالة وهجرة. في المقابل فإن حصة أهل الحكم المكفولة، هي مزيد من الصفقات والثروات والأرباح، في وقت سيحظى فيه البلد بمستويات غير مسبوقة من الديون والأزمات والمخاطر.
وإذا كان أهل الحكم والطبقة السياسية بمختلف أطيافها، يعرفون جيداً قوة اسلحتهم المستخدمة في تقسيم اللبنانيين وتحويلهم أدوات يقاتلون بهم، ويستغلون ما يتسببون به لهم من مآسٍ تساهم في تعطيل اراداتهم وتشويه وعيهم. فإنهم لا يعلمون إلى متى يستطيعون ممارسة القهر والإذلال للمحكومين منهم، كما لا يعرفون مفاعيل ذلك وما يمكن أن يولّد من ردود أفعال ومتى. لا نقول ذلك من باب الدعوة لصحوة نعلم أنها لن تأتي، ولا نسوقها نصيحة نعرف أنه لامكان لها في حساباتهم. نقول ذلك برسم قوى التغيير، لأن ضحايا نظام الفساد السياسي والصراعات الأهلية وسياسات النهب والإستغلال وحكم المافيات، هم أصحاب المصلحة الحقيقية في التغيير والإنقاذ. هم الكتلة الاجتماعية التي يفترض التوجه لفئاتها في أمكنة عيشها ومعاناتها، لرفع الصوت معها حول ما هي فيه، والتحرك معها وليس عنها.. فالتغيير لا يأتي إذا غابت قواه الاجتماعية.
[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]الافتتاحية[/author]