أموت أو لا أموت فلا أبالي … فهذا العمر من نسج الخيال.
في ذكرى المعلم كمال جنبلاط نفتقد قامته الباسقة كشجرة حور على ضفة نهر الحياة، يسقيها من عطائه فكراً وحضوراً ودماءً، دون أن يتوقف عن العطاء رغم تعاقب السنين والعقود … صحيح أن الورود لم توضع على ضريحه هذا العام، كما في الأعوام السابقة، لكن حضوره وتجربة عطائه المخضبة بالدم تظل حاضرة أبداً.
الآن وبعد كل هذه السنوات من طلقات الغدر التي مزقت جسده وعجزت عن روحه، نقف أمام محراب تجربته خاشعين نستعيد ما انقطع، لنقول للمعلم ما قلناه لحظة شهادته “باق فينا وسننتصر”، لا نتحدث عن بقاء مادي، ولا عن نصر دموي عنفي، بل عن خلود فكري ونظري وأخلاقي. كمال جنبلاط بطل الاستقلال والسيادة والتقدم والمساواة والعدالة الاجتماعية والحرية والديموقراطية والعلمانية والعروبة الرحبة المنفتحة على العالم الواسع وعلى التقدم الانساني روحياً وتقنياً، باق في نبض قافلته وهي تغذ السير نحو الأمام رغم المخاطر والأخطار المحدقة. صحيح أن جسده تهاوى بفعل النار التي أصابته، لكن يتبين الآن ودوماً وأبداً، أنها أعجز من أن تنال من ممارسته السياسية وقامته الفكرية والثقافية والروحية، ومن نزوعه نحو الانتصار للانسان المنتج العامل والفلاح والكادح ساعداً وفكراً في هذا الوطن. قتلوه قصداً وعن سابق تصور وتصميم لأنهم رأوا في سياساته ومواقفه عدواً لجشعهم وتسلطهم الذي لا يرى في هذه الأرض سوى مساحة استغلال لتعب وعرق الناس الذين أحبهم، والذين لم يروا فيهم أكثر من عبيد لتأبيد سلطانهم وبطشهم وقهرهم. بأيديهم قرار الحياة، وطوع بنانهم سيف الموت مسلط على من يتهدد تسلطهم. تمزيق وحدة البلاد وتشريد الشعب على منافي الداخل والخارج يهون أمام هدف البقاء ممسكين بزمام السلطة حاجزين حق شعوبهم في تحقيق التقدم عبر مسالك مجراه العظيم.
كمال جنبلاط الذي مثَّل بشخصه هذا الكيان وهذه البلاد وهذا الشرق الدامي والمدمّى بأوبئة بشرية وجرثومية كالتي تحجرنا هذه الأيام في قواقعنا الضيقة، لا تؤرخ حياته بيوم ميلاده وحياته السياسية والفكرية ولحظة استشهاده، فهو اليوم، كما الأمس يظل “ماليء الدنيا وشاغل الناس ” بما حقق وما قدم في سبيل تحقيقه تتويجاً بدمه، بعد أن سبقه في هذه الشعاب ألوف الشهداء من أبناء الشعب الذين قرروا الدفاع عن كراماتهم وحقهم بالعيش الكريم. لم يكن الوطن يوماً لكمال جنبلاط بقرة حلوب، والموقع السياسي دجاجة تبيض ذهباً، ولا صالة للبورصة والمضاربات والتنفيعات وتكديس أموال الشعب في المصارف تنقل للخارج متى شاءوا ، ثم يرفعون الصوت معلنين أفلاس الدولة. لم يقف كمال جنبلاط أمام حاكم من يكون، معلناً أنه جندي صغير في عديد جيشه، وبيدقاً على رقعة شطرنج خططه وسياسته. كمال جنبلاط قائداً للحركة الوطنية وحاملاً لمشروعها في الاصلاح السياسي كم أنت كبير امام جوقات المتسلقين على شجرة الوطن، ينهبون خيراتها ثم يتركونها عارية أمام الجوع والمرض … كم أنت كبير معلماً عظيماً في زمن الصغار.
[author title=”عماد زهير” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]