سياسة

تصعيد الانقسام الأهلي وعودة مشاريع الفدرالية

لا يُقرأ السجال إلا في سياق أسباب تجدده، لأن قرار التبرئة ليس بريئاً، وهذا يستدعي النظر له من زاوية الأولويات الراهنة لكل من الحليفين. وهي المتمثلة باستحقاق خلافة العهد القوي وموقع ولي العهد فيه، في مقابل التحديات والصعوبات والأكلاف الباهظة على حزب الله  في الداخل والخارج.

في معمعة الأزمات المتفجرة التي تثقل كاهل اللبنانيين وتداعياتها الخطيرة، لم يكن ينقصهم سوى تجديد الانقسام الأهلي حول الوطنية والعمالة في لبنان والولاء للخارج، على رافعة قرار المحكمة العسكرية تبرئة العميل عامر الفاخوري وإخلاء سبيله. وفي الحقيقة إن تجدد الانقسام يشكل أحد أوجه صراع المصالح الفئوية ومشاريع الهيمنة وطموحات السيطرة على الدولة، في ظل تآكل موقعها. ولأن  قضية  العمالة لاسرائيل التي لم تعالج أصلاً وفق المصلحة الوطنية، تعبر راهناً عن مأزق الطرفين اللذين توافقا أو بالأحرى تواطأا على علاجها، وأزمة العلاقة المزمنة بينهما منذ توقيع  اتفاق مار مخايل.

  قام الاتفاق أصلاً على تقاطع أولوية مصالح فئوية، وفق معادلة تسمح لكل فريق وفق موقعه وطبيعة مشروعه وفائض قوتة بصرف النظر عن مصدرها، أن يقرر ما يناسبه، وأن يضع الآخر أمام الأمر الواقع. مما يعني التوافق على تبادل الخدمات لتعزيز مواقعهما ونفوذهما، وتقبل الاختلاف في ظل التحالف القسري بينهما، كضمانة وجودية لكل منهما، باعتباره أهم من الوطن والدولة ومؤسساتها. وعليه فإن الاتفاق استمر إطاراً صالحاً بفضل فائدة الطرفين منه، وليس قداسته.

لذلك لا يُقرأ السجال إلا في سياق أسباب تجدده، لأن قرار التبرئة ليس بريئاً، وهذا يستدعي النظر له من زاوية الأولويات الراهنة لكل من الحليفين. وهي المتمثلة باستحقاق خلافة العهد القوي وموقع ولي العهد فيه، في مقابل التحديات والصعوبات والأكلاف الباهظة على حزب الله  في الداخل والخارج.

  فرئيس التيار الذي يتصرف كرئيس ظل، يرى الرئاسة تتويجاً للاسئثار بالتمثيل الغالب للمسيحية السياسية، والاستحواذ على أكثر المناصب والتعيينات في مؤسسات الدولة وقطاعاتها الاساسية. لكنه يتخوف من دفع أكلاف العلاقة مع حزب الله المحاصر بالعقوبات الاميركية المرشحة للاتساع. وفي ظل تقدير أن الحزب لم يعد الجهة المقررة لانتخابات الرئاسة المقبلة، لابد من التحوّط والانفتاح لترميم علاقاته الخارجية من البوابة الأميركية علّه يضمن وصوله الى موقع الرئاسة. وليس أفضل من تبرئة عميل يحمل الجنسية الاميركية والاستجابة للضغوط  مدخلاً لتقديم أوراق الاعتماد للمرحلة الجديدة، انطلاقاً من اعتقاد راسخ بأن غضب الحزب لن يترجم قطيعة نظراً لأهمية العلاقة مع العهد.

  أما قيادة الحزب التي اشتهرت بالمغالاة في استعراض قوتها، باعتبارها الطرف الأقوى في البلد والمنطقة، والتي تستطيع القيام بالمعجزات، فهي لا تقبل التشكيك حول دوافع تمرير قرار تبرئة الفاخوري كما جرى مع قرارات مشابهة سابقاً، في أعقاب الانسحاب الاسرائيلي، الذي كان لدماء وتضحيات الحزب الفضل الرئيسي فيه إلى جانب مقاتلي جبهة المقاومة الوطنية. علماً أن القرار أتى في امتداد تعثر استراتيجية محور الممانعة، وفي أعقاب انتفاضة شعبية عارمة، وضعت قيادة الحزب في موقع دفاعي، وكان الرد برفع سيف التخوين والعمالة للسفارات والقمع الميليشياوي ضد ساحات المعتصمين خاصة في مناطق نفوذه، قبل أن تنجح في إبعاد الإتهام بذريعة القداسة، وتحييد مسؤوليتها عن السياسات التي وضعت البلد أمام حصار وعقوبات خانقين.

  إن عدم وجود صفقة لا يلغي مشروعية  التساؤلات من أي جهة أتت. ولأن الوجه الآخر للاستخفاف بالعقول هو إلغاء الرأي الآخر وتخوينه، وهو السلاح الأساسي لأنظمة الاستبداد التي يواليها أو يدافع عنها. لذلك لم يكن مفاجئاً هذا الكم من التقريع والإدانة للأصدقاء الذين سمحوا لأنفسهم بالتطاول والتشكيك وطرح الأسئلة، وتخوينهم وطلب نبذهم من بيئة المقاومة، رغم أنهم لم يترددوا يوماً في إعلاء الولاء،  بعضهم طوعاً ووجاهة وأكثرهم بقوة الإستفادة والانتفاع. أما جمهور الحزب فما عليهم سوى التسليم بقداسة القيادة وصدق قولها، وعدم السماح لأحد العبث بايمانهم.

 وما يؤكد ضخامة مأزق الطرفين، وتراجع دور الدولة والإعتداء على مؤسساتها، كان تبرير بقاء المعابر غير الشرعية بذريعة الطريقة المدانة لاخراج الفاخوري من البلد.  كذلك عملية التصفية المشبوهة للعميل الحايك، الذي قررت المحكمة نفسها “براءته” قبل عقدين وفق القانون عينه. وكلا الأمرين تحولا مادة ثمينة لتزخيم طروحات الفدرالية المتجددة في ورش النقاش، وتكاثر الجهات المطالبة بها والداعية لها، وسط بعض مكونات المسيحية السياسية والكنسية. في موازاة مطالبة رئيس التيار باللامركزية المالية للدولة، للفصل بين المناطق والمسؤولية عن الانهيار وإمكانيات علاجه. وهذا ما بات يشكل مصدر قلق بالنظر لمخاطرها الوجودية ليس على الأقليات الطائفية فحسب، بل على الوجود المسيحي، في أعقاب ما أصابه خلال الحرب الأهلية في لبنان، أو ماشابهها من  حروب مجاورة مدارة دولياً وإقليمياً.

  ما أكدته التجارب، أن القوى الطائفية لا تعالج أزماتها بتسليم اوراقها، إنما بالإيغال والهروب للأمام في مشاريعها التقسيمية، على حساب الدولة ومؤسساتها أو ما تبقى منها، كما تفعل راهناً بذريعة مضاعفات الانهيار والوباء الجرثومي. أما نهاية النظام الطائفي فيبقى مرهوناً بقيام معارضة ديمقراطية مستقلة، قادرة على محاصرة قوى الطوائف وتجديد مشروع ووحدة الدولة بمكوناتها كافة.

[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]المحرر السياسي[/author]