لم تخطىء الإنتفاضة برفع شعار”كلن يعني كلن” في الأسابيع الأولى. ولم يفقد حكم الساحات صحته بحق كافة قوى السلطة بتهمة الفساد وأسبابه الموجبة. إذ لا يكفي أن يدعي إيٌ من تلك القوى براءته من الفساد، وأنه لم يستطع محاربته بسبب عدم تعاون الآخرين والقضاء معه. لكن السؤال المغيّب لماذا انحسرت دائرة الإتهام وانحصرت بفاسد وحيد، يتمثل وفق رأي البعض ب”حكم المصرف” ممثلاً بتحالف جمعية المصارف وحاكم المصرف المركزي. هل حقاً هما الحاكم الفعلي للبلد، أم أنهما خادمان أمينان لمصالحهما، وشريكان لأهل النظام وقواه، والممِّول لكافة انشطتهم في حكم البلاد وإدارة شؤونها ومرافقها. هل هذا التحالف هو من ينظم الانتخابات وفق قوانين يقررها، ويعيد تكوين السلطة وانتاج قواها، ويجدد بنيتها ويقود صراعات المحاصصة الطائفية بينها، ويعطل الاستحقاقات الدستورية. وهل يمكن القول إنه من يرسم السياسات الاقتصادية والمالية؟
من يتبع من؟ من المؤكد أن المصارف لديها مصالحها وهمها مراكمة الأرباح أولاً وأخيراً، وهي تتشارك مع قوى السلطة عملية نهب اللبنانيين، لكن السؤال من ينظم التهريب عبر المعابر الرسمية وغير الشرعية، ومن يحمي ويمارس التهرب الضريبي ويضع يده على الأملاك البحرية ويستبيح البيئة. من ينظم الصفقات ويتقاسم السمسرات، ويعطل القوانين ومؤسسات الرقابة، ويتنازع على الصلاحيات والتعيينات باسم حقوق الطوائف. ومن يستقوي بالخارج ويقاتل من أجله ويرهن البلد ويبقيه ساحة صراع اقليمي ودولي ويضرب مصالح اللبنانيين عرض الحائط.
من يمنع بناء الدولة ويهمش أو بالأحرى يهشم مؤسساتها الوطنية كافة ويستقوي عليها. صحيح أن المصارف تعبث بأموال اللبنانيين ومدخراتهم وتمارس راهناً أبشع أشكال الإذلال لهم. لكن السؤال من يحميها ولماذا، ومن قرر السياسات الاقتصادية والمالية واعتمد الاستدانة وسيلة وحيدة لتمويل الخزينة، وهدر مقدرات الدولة والمال العام ونهبهما. هل هو طرف محدد أم أن الجميع شركاء في القرار والأداء والممارسات، منذ الطائف بصرف النظر عن الحصص والنسب.
كثيرة هي الأسئلة التي تطال مختلف قضايا وشؤون ومستقبل اللبنانيين في شتى مناحي الحياة حقوقاً ومطالب وطموحات وأحلاماً بوطن ودولة. وهذه بمجملها ما فتىء اللبنانيين يطالبون بها في الساحات والشوارع منذ 17 تشرين الاول، كما قبله. وهي القضايا التي من أجلها رفعوا شعار”كلن يعني كلن” مطالبين برحيلهم لأنهم جميعاً سواء في المسؤولية عن الانهيارالمريع الذي يأسرهم بمخاطره المرعبة. وفي سبيلها أيضاً تعرضوا للقمع العاري من قوى السلطة الفعلية الحاكمة والمتحكمة بالبلد وميليشياتها، كما واجهوا القمع المتمادي والمستمر من الأجهزة الرسمية.
لكن الأخطر الذي واجهه اللبنانيون المنتفضون، هو استحضار شبح الحرب الأهلية الطائفية واستعراض ميليشياتها في الشوارع والأحياء، واستخدامها للقمع المباشر وأداة حماية للطبقة السياسية بمجملها وللنظام. وبين فعل ورد فعل حضرت كل قوى السلطة بأحزابها وتياراتها الطائفية وموروثها تحت راية الدفاع عن رموزها وراياتها ومقدساتها، لكن الأساسي هو حماية مكتسباتها ومواقعها ومصالحها باسم الطوائف التي تدعي تمثيلها، لكن الأهم تحصين نظام المحاصصة الطائفية والفساد السياسي بصفته الضمانة الوحيدة لسلطتها ودورها ووجودها أولاً وقبل أي شيء آخر.
ولأن الوطن بالنسبة لتلك القوى ساحة، ودويلاتها أهم من الدولة، والمقدس هو النظام والطائفية والولاء للخارج، فيما اللبنانيون مجرد رعايا وأتباع، فإن أي محاولة للمس بها أو لتغيير معادلاتها، مهما كانت غاياتها مشروعة انسانياً أو وطنياً وأخلاقياً وحتى دينياً، فهي مؤامرة وكل الأسلحة مُشرَعة لمحاربتها واسقاطها. يستوي في ذلك مطلب بناء الدولة وحقوق المواطنين ومطالبهم واحلامهم ومستقبلهم. وعلية تنافس جميع أهل السلطة وتشاركوا قمع الانتفاضة، واحتشدوا لاجتياح ساحاتها وركوب موجتها وتوظيفها وشرذمتها واسقاط شعاراتها لتيئيس اللبنانيين من امكانية التغيير. لقد سعى الجميع بمختلف الوسائل لتجويف الانتفاضة وتشويه طبيعتها الديمقراطية والوطنية الجامعة والتعددية، من أجل حرفها عن أهدافها الرئيسية والدفع بها إلى حيث يمكن الإيقاع بها، في شباك مصالح وسياسات بعض قوى الطوائف، عبر استغلال الشعارات اللفظية وتحويلها أداة في صراعات أهل النظام والسلطة لتصفية الحسابات في ما بينهم.
وإذ لا نشك لحظة بفساد المصارف وحاكم المصرف، بصفتهما من توابع النظام وشركاء قواه في تنفيذ سياساتهم وخدمة مصالحهم، وإذا كانت الانتفاضة قد حققت لغاية الآن ما كان ممكناً تحقيقه وهو ما لا يستهان به، وبما أن المطلوب العمل على تجديد مسيرة إعادة بناء قوى الانتفاضة وأدواتها النضالية وصياغة برامجها وشعاراتها حول قضايا التغيير الديمقراطي ومشروع بناء الدولة الديمقراطية والوطن، ولأن ذلك يتطلب العمل على نقل الأهداف من دوائر الاحلام إلى ميادين الواقع كي تصبح وقائع ملموسة بالتدريج، فإن الأمر يفترض البحث عنها حيث هي حقاً وفعلاً مهما كانت التحديات والأكلاف والصعاب، وليس في مساحات السراب، هكذا علمتنا التجارب، تجاربنا وتجارب الآخرين وهي غنية.
[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]كتب المحرر السياسي[/author]