بعد مائة عام على إعلان تأسيس دولة لبنان الكبير كياناً سياسياً ومشروع وطن للبنانيين، انتفض هؤلاء بأكثريتهم وملأوا الشوارع والساحات في مواجهة الطبقة السياسية الحاكمة، ليرسموا خطاً فاصلاً في تاريخ البلد. انتفاضة مجيدة شكلت خطوة في مسار تأسيسي جديد لبناء دولة ووطن يليقان بطموحات أبنائهم، يحدوهم الأمل في تجاوز العثرات والخيبات والرهانات الخاطئة التي شابت مسيرات من سبقوهم، كي لا تذهب تضحياتهم سدى، وأن ينجح نضالهم المشترك في تحقيق ما عجزت عنه الأجيال السابقة في صراعاتها مع السلطات المتعاقبة التي أمعنت في استباحة البلد ورهنته للخارج.
والطبقة السياسية الحاكمة التي يطالبون بإسقاطها ورحيلها ومحاكمتها، لا تقتصر على الوزراء والنواب والرؤساء الحاليين، إنما تضم قادة الأحزاب والتيارات الطائفية وأبنائهم، وكل من تعاقب على السلطة وتولى مواقع المسؤولية العامة في مؤسسات الدولة وأجهزتها القضائية والمالية والأمنية، منذ اتفاق الطائف حتى يومنا هذا. هؤلاء جميعاً هم أبطال الفساد السياسي والمسؤولون عن الأزمات التي حلت بأكثرية اللبنانيين.
إنها الطبقة التي تحكم بقوة آليات المحاصصة، وتعتمد سياسات الإستدانة والنهب والهدر بحجة معالجة الأزمات، التي أدت مضاعفاتها وفضائحها إلى اختناق ضحاياها، ودفعتهم للخروج إلى الشوارع والساحات في موجة غضب عارم غير مسبوقة، تحولت انتفاضة شعبية هي الأولى على امتداد مساحة الوطن.
رغم تاريخية حدث الانتفاضة حجماً وإتساعاً لصفوف المشاركين فيها، فإن رد أركان الطبقة السياسية الحاكمة والناطقين منهم، لم يقتصر على الكلام الإنشائي وادعاء تفهم ماجرى، بل أتى إمعاناً في تجديد التزام السياسات التي انتجت الأزمات المتفجرة وأدخلت البلد مرحلة الإنهيار. ولم تعدل فيها الانحناءة الخجولة المتمثلة بسحب سلة الضرائب من مشروع موازنة العام 2020، المعبرة عن مستوى الإستهانة باللبنانيين وتحميلهم أعباء سياسات الإستدانة والنهب والهدر وإستباحة مؤسسات الدولة.
لم تغير الطبقة الحاكمة سياساتها الاقتصادية، بل جددت الشراكة بين أطرافها لتقاسم المواقع والغنائم. وكان جديدها إقرار تشريع بيع المؤسسات العامة للقطاع الخاص مقابل بضعة مليارات من المال الذي نهبته المصارف عبر الاستثمار في سندات الخزينة بفوائد خيالية. وخطورة تشريع البيع أنه يجري في ظل بلوغ الدين العام مستوى قياسي عالمياً وتحول الإستدانة لسداد الفوائد. وقد شكل التبني السريع لما يسمّى “الورقة الاصلاحية” سقوطاً مريعاً لمدعي معارضة نهج الإستدانة وسياسة الخصخصة، وقد انتقلوا إلى كيل المديح بعد قبول طلب الشراكة في الفوائد.
من المؤكد أن الإنتفاضة هي نتاج المعاناة الطويلة للبنانيين تحت وطأة سياسات وممارسات الطبقة الميليشياوية التي تسلطت عليهم، وحكمتهم وفق شرائعها، لا تقيدها محرمات ولا روادع دستورية أو إنسانية أو أخلاقية. فالسائد هو العبث بالبلد، وإثارة الفتن والنزاعات وإدامة خطر الحرب الأهلية عبر تعزيز الانقسامات الطائفية لضمان السلطة والنفوذ، واستباحة أو شل المؤسسات وتعطيل الاستحقات الدستورية، والخضوع لمصالح الدول النافذة والاستقواء بها، والإرتهان لأنظمة الاستبداد والقتال دفاعاً عنها. أما الرايات الوطنية والمقدسة والأسماء والشعارات السامية التي ترفعها، فهي أدوات تضليل وتعمية على ممارساتها وجرائمها بإسم حقوق الطوائف، واستسهال التفريط بمصالح الوطن وصولاً إلى حد خيانتها.
لذلك لم يتردد اللبنانييون الذين فاضت بهم الشوارع والساحات، عن كسر حواجز الخوف للدفاع عن انتفاضتهم، وإعلانها مواجهة صريحة لا عودة عنها مع الطبقة السياسية مجتمعة ومنفردة، وقد أخذتهم المفاجأة وأصابهم الارتباك جرّاء التهم الموجهة للأركان منهم وتحميلهم كامل المسؤولية عن حالة الإنهيار. لقد قامت الإنتفاضة بتعريض هؤلاء إلى محاكمة سياسية وشعبية، كانت منصاتها الساحات والميادين، حيث سطرت بحقهم وعلى مدى أيامها، لوائح الإتهام المفصّلة، وأدى المنتفضون أدوار المحققين والقضاة ومحامي الدفاع والحق العام، واصدروا بحق المتهمين أحكاماً لا تحتمل التأويل أو المراجعة ولا تقبل الاستئناف: “كلن يعني كلن”. فالجميع مدان والقرر الاستقالة والرحيل. بدءاً من صاحب العهد المتهالك ورئيس تياره المدان بالعنصرية والاستئثار بالسلطة، إلى رئيس المجلس المتخمة حركته بالمحاسيب والفساد، مروراً برئيس الحكومة المفلس والمحاصر بالفضائح ومطالبات أصحاب الحقوق، إلى زعيم الحزب الاشتراكي وقائد القوات، الشريكين الأضعف في معادلة السلطة والمغانم، حيث لم يشفع لهما الأداء الحائر بين البقاء في جنة السلطة، أو الخروج منها علّ الشارع يُحسن شروط العودة لها، مروراً بزعيم المردة الحالم بالرئاسة القادمة.
أما قائد حزب “المقاومة” فلم يشذ عن تحميل المسؤولية للآخرين، وقد ارتأى أن خير وسائل الدفاع الهجوم. لذلك تعمّد إعادة التذكير بفائض القوة والقدرة، وإعلان الاستعداد للدفاع عن موقعه الحاكم والمتحكم بالبلد ومؤسسات الحكم والسلطة. هو لن يسمح بسقوط العهد الذي خاض معركة رئاسته، أما الحكومة التي خضع تشكيلها لشروطه، فممنوع استقالتها تحت طائلة المحاسبة والمحاكمة. وأن كل الخيارات واردة “فلا تجربونا”. فالعهد والحكومة الحالية هما الغطاء الضامن لسياسات حزب الله وفي مواجهة الحصار الذي يتعرض له، وأي محاولة لتغيير معادلات السلطة القائمة هي مؤامرة اميركية صهيونية، وفي مقابل تفهم وجع الناس حذار أن تكون الانتفاضة غطاءً لاستهدف الحزب.
لم يكن أداء الطبقة السياسية واركان الحكم والمسؤولين وإقرار ما سمي ورقة إصلاحية، مقنعاً للذين ملأوا الساحات، ومعهم بعض جمهور أحزاب السلطة وحزب الله، الذين شاركوا في الانتفاضة أو تعاطفوا معها. وقد رأى أكثرهم في التهويل والتلويح بالسيطرة استفزازاً لهم و إهانة لكرامتهم ووطنيتهم وحركتهم. كانت ردة الفعل تزخيم الانتفاضة وانضمام ساحات جديدة لها، جرت مواجهتها أحياناً بالعنف الميليشياوي الذي أثار موجة ساخطة من الاحتجاجات. وأحياناً بتجديد الهجوم الدفاعي، واستحضار خطاب التخوين والمؤامرة وتمويل السفارات، واطلاق التهديدات الصريحة لبعض قوى السلطة التي تحالف وإياها في الكثير من المواقع النقابية، وتشارك معها في الحكومة. بالإضافة لاستغلال نقاط ضعف الانتفاضة والثغرات العديدة في بنيتها، والإمعان في استفزاز ساحاتها والتهويل على اللبنانيين بالحرب الأهلية. لا يقرأ المسلك إلا في امتداد استمرار سياسة استرهان البلد ورهنه ساحة صراع بعيداً مصالح شعبه الوطنية والاجتماعية.
المؤكد أن الطبقة السياسية لن تسلّم أوراقها بسهولة كما يعتقد البعض، لكن ما بعد الإنتفاضة ليس كما قبلها. اما أهل الإنتفاضة فإنهم أمام تحدي وعي مسؤولياتهم التي رتبوها على أنفسهم.
[author title=”زكي طه” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]