سياسة مجتمع منشورات

رفض اللبنانيون الموت… فكانت الانتفاضة

يصرخون: ثورة ثورة… كلن يعني كلن … حرامي حرامي.. دولة مدنية وحكومة انتقالية…وحدة وطنية… ثورة لا تخشى التهويل ولا يرعبها قمع سلطة مفككة أو ميليشيا متحكمة.

انتهت امامهم كل الفرص وسقطت كل الرهانات والوعود. تبددت الآمال وحوصرت الأحلام، ولم يعد يجدي الركض خلف الأوهام، ولا الصمت الذي أدمنوه. جربوا وصدقوا الطبقة السياسية وانتظموا في احزابها ولم يحصدوا سوى الخيبة والذل واليأس. أعادوا الكرة  وانتظروا.. وجدوا أنهم محاصرون بالفقر والبطالة  والهجرة. باتوا أمام حائط مسدود، ولم يبق لهم سوى ذواتهم  المطوقة بالمهانة والبؤس والمرض.

   وفي لحظة الاختناق رفضوا الموت وانفجروا غضباً، فكانت الانتفاضة. ركضوا إلى الشوارع  يصرخون بأصوات عالية تحوّل صداها  نداءً استجاب له الكبار والصغار، نساء صبايا وشباب من مختلف الأعمار والفئات والمناطق والطوائف ملأوا الساحات في مشهد مشحون بالأمل والحماس والإصرار يصرخون: ثورة ثورة… كلن يعني كلن … حرامي حرامي.. دولة مدنية وحكومة انتقالية…وحدة وطنية… ثورة لا تخشى التهويل ولا يرعبها قمع سلطة مفككة أو ميليشيا متحكمة.

   انها انتفاضة مواجهة لا مهادنة فيها مع الطبقة السياسية الحاكمة بكل مكوناتها، رؤساء وقادة خانوا أحلام اللبنانيين وانتهكوا كرامتهم الانسانية وأفقروا  أكثريتهم وتسلطوا عليهم، كرسوهم طوائف متقاتلة ليفوزوا هم بالسلطة والمال المنهوب وقسموا الوطن ساحات مشرّعة للخارج وارتهنوا لأنظمته وسفاراته. انتفاضة راياتها محاكمة الفاسدين وعزل المرتكبين. واستعادة الحقوق المصادرة والأموال المنهوبة وتحقيق المطالب المشروعة. 

   هي انتفاضة شعبية أهلية عابرة للمناطق والطوائف والأجيال،  عفوية في تجاوزها لكل الانتفاضات والتجارب السابقة ما تحقق فيها وما عجزت عنه. انتفاضة  للحالمين بوطن  يعيشون فيه  مواطنين أحرار متساوين يفتخرون بالإنتماء إليه. ثورة تحقيق طموحاتهم في دولة  تؤمن لهم فرص بناء مستقبل لهم . ثورة تبني وطناً  يضمن حقوق الانسان ويرسي العدالة الاجتماعية للجميع، وتقيم دولة توحّد المجتمع وتفتح الأفق لمسارات التقدم والحداثة. 

  هي انتفاضة  تستحق من اللبنانيين، النظر إليها والتعامل معها على أنها خطوة تأسيسية في مسار بناء هوية وطنية جامعة ودولة مؤسسات تضمن المساواة وتحمي الحقوق وتحقق الآمال. انها الاحلام المهام التي لم  تنجح الأجيال المتعاقبة في انجازها، رغم مرور مائة عام على إعلان تأسيس الكيان. انتفاضة وحدة وطنية ترفض الانقسام تستفيد من أخطاء التجارب والمحاولات السابقة. تبني على ما تحقق خلالها من انجازات محدودة وترفض العودة إلى الحروب الأهلية التي كرست الطائفية واستسهلت القتل والتهجير والتدمير  لكل ما راكمه اللبنانيون وبنوه في ميادين السياسة والاقتصاد والمجتمع والتحصيل الثقافي.

 ولأن الحركات الاجتماعية لا تولد مكتملة القوى والبرنامج، فإن الانتفاضة المتحققة، معنية بأن تصوغ برامجها المرحلية، وأن تنتج قياداتها بعيداً عن المحاصصة ومحاولات المصادرة وتحميلها برامج أو مهام تفوق طاقتها لإبعاد اليأس عن المشاركين فيها. ولا تفيدها محاولات تنصيب قيادات عليها من خارجها خاصة أصحاب التجارب الفاشلة الذين يهوون ممارسة التنظير ويستخفون  بقوة النظام الذي يستسهلون إسقاطه متجاهلين قوته وكفاءة الطبقة السياسية الحاكمة وإمكاناتها. وإذ استسهل المنتفضون بعفويتهم استعارة شعارات جاهزة، فهذا لا يعني انهم قاصرون لاحقاً عن صياغة شعارات  وتحديد مهام تتحول إنجازات في  مسيرة تراكمية متنامية.

   إن التحدي الذي يواجه أصحاب التجارب السابقة سواء كانوا أفراداً أو قوى وتنظيمات حزبية ومجموعات مدنية، هو في قدرتهم على الانتساب للانتفاضة ومسيرتها وعدم الإكتفاء بالتنظير الفوقي حول الثغرات ونقاط الضعف في بنيتها. فمسارات تقدم المجتمعات وتطورها محكومة بالتعقيدات ومواجهة الصعوبات والتحديات، لأنها لا تسير وفق خط مستقيم  يرسمه هذا الطرف أو تلك الجهة، وينفذ بناء لمراسيم يصدرها قائد أو حزب.

    ومهما كانت التسميات ثورة أو انتفاضة، وبغض النظر عن شعارات إسقاط النظام أو استقالة الحكومة، وبعيداً عن التنظير، فإن مجرد التسمية أو طرح الشعار وتحديد المطلب، يفرض فوراً طرح الاسئلة حول الآلية والإمكانية والوسائل،  مما يستدعي أسئلة من نوع آخر تتعلق بالقوى والبنية والتوقيت والاحتمالات. أما الجانب المتعلق بالسلطة والطبقة السياسية والنظام، بصفتهم جبهة الخصم أو العدو الذي نواجهه ونخوض الصراع ضده، فإن الأمر يتطلب عند كل محطة نقاشاً ووعياً للمعطيات التي تساعد في تقدير الموقف وتحديد الاولويات بعيداً عن الاستسهال والتبسيط والتضخيم كي تشكل الخطوات المتحققة إنجازات في مسار تراكمي  كي لا يصبح اليأس أو الفشل رفيقاً. لا نستهدف من هذه الملاحظات  سوى التبصر ونحن نتطلع إلى المشاركة في هذه المسيرة، ونحن مسكونين بآمال اللبنانيين وأحلامهم والتي نرى أن الإنتفاضة وسعت  الأفق أمام إمكانية وضعها قيد التحقق رغم كل الصعوبات، يبقى المؤكد أن 17 تشرين الاول 2019، بات يوما مجيداً في تاريخ الوطن ومحطة مرجعية للحالمين بالتغيير والتقدم الذين يأملون بأيام أخرى.

[author title=”المحرر السياسي” image=”http://”]المحرر السياسي[/author]