اقتصاد سياسة مجتمع منشورات

إنتفاضة اللبنانيين تكسر حواجز الفرز الطائفي وينتفضون

اعتبار أن ممثليهم يقومون بالواجب ولا داعي لظهور سواهم. المتظاهرون الذين أطلوا على شاشات التلفزة والذين لم يتسن لهم يوماً الظهور قالوا بالفم الملآن ما ضاقت به صدورهم. عبارة ” كلن … يعني كلن ” مهذبة، استعملوا لغتهم ولهجاتهم وشتائم الشوارع معبرين عن أوجاعهم  وأحلامهم، وكأنهم يتحدثون بصوت واحد.

إنتفض اللبنانيون من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، وما بينهما من مدن وقرى وبلدات. عبّرت حشودهم التي اجتمعت في الساحات العامة والشوارع عن رفضهم ليس فقط لعملية الإفقار والتجويع التي تستهدفهم من جانب السلطة ورأس المال، بل للنظام السياسي الذي يفرزهم حصصاً موزعة على عدد من الزعامات الطائفية لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، قرروا أن الطائفية التي تفضلهم عن بعضهم بعضاً مع حراسها وسدنتها هي الداء الذي تتمكن فيه هذه المجموعة مع أصحاب الرساميل المالية، من نهب خيرات بلادهم واستنزاف مقدراتهم وأحلامهم. ولأن الكاس فد فاض، وقصمت القشة ظهر البعير، لم يعد هناك من مجال للتردد فأغرقوا ميادين البلاد بحضورهم الذي طالما جرى تغييبه، باعتبار أن ممثليهم يقومون بالواجب ولا داعي لظهور سواهم. المتظاهرون الذين أطلوا على شاشات التلفزة والذين لم يتسن لهم يوماً الظهور قالوا بالفم الملآن ما ضاقت به صدورهم. عبارة ” كلن … يعني كلن ” مهذبة، استعملوا لغتهم ولهجاتهم وشتائم الشوارع معبرين عن أوجاعهم  وأحلامهم، وكأنهم يتحدثون بصوت واحد.

طوال أيام الحراك هذا نزلت الملايين إلى الشوارع. نبضها الشباب والشابات، ولم يتخلف عنها كبار السن والأطفال، لم يفت من عضدهم تقطع الطرقات، فوصلوا مشياً على الأقدام والكراسي المدولبة إلى مناطق التجمع حاملين الاعلام اللبنانية والنشيد الوطني اللذين اكتسبا بُعداً يليق بهما، لم يكن يتوفر سابقاً. قالوا بصريح العبارة أنهم من هذا الوطن، وأنه وطنهم وليس مجرد مزرعة يتقاسم أصحابها تعبهم. خرجوا منذ الصباح الباكر وتقاطروا جماعات وعائلات في العشيات، وحولوا الليل إلى مهرجانات وحلقات دبكة ورقص ونقاش وجلسات سمر وشرب قهوة واراكيل. قدموا وجه لبنان الحقيقي في عكار وطرابلس والهرمل وعرسال واللبوة وبعلبك وشمسطار وزحلة وجب جنين وطرابلس وبنت جبيل وصور والنبطية وكفرمان وسوق الخان وصيدا وعاليه وبعقلين والبترون وغزير والزوق وجونيه وجل الديب والأشرفية وساحتي رياض الصلح والشهداء و… حملوا معهم شعارات ولافتات صنعوها بأنفسهم وكانوا أشبه ما يكونون بسيل يندفع نحو المنحدرات فيجرف في طريقه الحواجز. صحيح أن أهداف الانتفاضة لم تتحقق بعد، والتغيير لم يحدث، والمطالب لم تنفذ، ولبنان قيم الحرية بأوسع معانيها والعدالة الاجتماعية والوطنية والاستقلال والعروبة والديموقراطية والعلمانية لم يبلغ غايته بعد، ولكنهم وضعوا المدماك الأساس الذي يمكن البناء عليه في المقبل من الأيام. قدمت المدن نفسها بصورتها الفعلية باعتبارها مكان اجتماع إنساني خلاف ما جرى تصويرها وتسويرها به، وأن هذا الاجتماع بأبعاده الوطنية التاريخية له أصوله وقواعده والآمه وآماله. كسرت التظاهرات الصور النمطية للمناطق كمواقع على طاولة الطوائف. كانت الفرق الموسيقية والحناجر تعزف فيرتفع النشيد، نشيد السعي لبناء وطن وليس سوق أو بزركان مكاسرة على حصص الطوائف. بان الوجه الحقيقي للبنانيين الذين طالما لعب مستثمرو عامل الطائفية السياسية على أوتار انقساماتهم وحولوها إلى عوارض مرضية. حتى بدا للبعض وكأن هذه التركيبة من فعل آلهي لا تغيير لقوانينها وأعرافها وتقاليدها. كسر اللبنانيون هذه المقولة التي طالما شكلت منطلقاً لمبدأ الفرز. كانت حصيلة ما اختبروه خراب بلادهم بدءاً من الاقتصاد والعملة الوطنية مروراً بالبيئة، وانتهاءً بتدهور أوضاعهم وتشريد شبابهم يبحثون عن فرصة عمل، يرسلون أتعابها إلى ذويهم، لمعاونتهم على تأمين قوتهم والعيش بكرامة. عبروا بحضورهم عن رفض الإذلال الذي يستبيح كراماتهم الشخصية والانسانية. إن أردت أن تدخل إلى المستشفى لتلقي العلاج أو التسجيل في مدرسة أو التوظيف في الاسلاك العسكرية أو المدنية.. أو الحصول على أي من حقوقك، يجب أن تقف مذلولا على باب الزعيم تستعطف خاطره. إن كنت من الاتباع الذين يحملون شهادة حسن سلوك الولاء وصلت إلى مرامك، أما إن صدف وكنت من المتذمرين فستعود مجللاً بأذيال الخيبة. صحيح أنك تطالب بأبسط حقوقك، ولكن حقوقك في الواقع تمر من خلال تكرم ولي نعمتك وآمرك وسيدك.

يمكن قول كلام كثير في ما حققته هذه الحشود من إنجازات، لكن يبقى أهمها هو كسر حاجز الخوف، من الزعامات السياسية وزبانيتها أولاً وقبل كل شئ، ومن الآخر بما هو مواطن مثله مثلك لكنه يختلف عنك في الانتماء إلى عائلة روحية وُلد عليها كما وُلدت، وثالثاً كسرت وهرة تقديس ما هو قائم من زعامات في المجتمع اللبناني وتطلعت إلى الأمام. ما قبل هذا الحراك يختلف كلياً عما بعده.

كل الذين تدفقوا على الساحات تحدثوا عن معاناة تفاصيل ما عاشوه من ظلم هذا النظام الذي حرمهم انسانيتهم. الوقائع التي ترددت على ألسنة المعذبين كافية لترسل أهل السلطة إلى المقصلة، لو أن زمن الثورة الفرنسية ما زال قائماً. مرضى يموتون على أبواب المستشفيات، أو لأنهم حافظوا على قسمهم ومارسوا عملهم الوظيفي في صيانة الحريات والديموقراطية وحق الاقتراع … وغيرهم من الذين يرفضون توظيفهم بذريعة الإخلال بالتوازن الوظيفي رغم نجاحهم … قصص قصص لا تدخل في باب الخيال، بل مجرد سرد لدموع وقائع القهر والعذابات اليومية لحياة المواطنين في بلاد يُفترض أن تحتضن وجعهم وحاجتهم.

يبقى هناك كلمة يجب أن تقال حول بعض ما شهدته صور وبنت جبيل والنبطية وبعلبك وطرابلس وغيرها التي تعرض المعتصمون في ساحات بعضها للاعتداء بعد أن طاولت الشبهات القيصر وإمرأته وأنصاف الآلهة، لذلك استنفرت الميليشيات حفاظاً على الولاء والطاعة وكي لا تخدش القامات العصية على النقد والمساءلة، وتمريناً على اقتحام الطرقات المقفلة وفض الحشود. كان يمكن لانتفاضة اللبنانيين أن تمر برداً وسلاماً وبأقل قطرات دماء ممكنة، لكن تبين أن هناك من لا يتورع عن استعمال أدواتهم البشرية مزودة بالهراوات والسكاكين والرصاص الحي. رغم هذه الجراح أصر اللبنانيون ألا يخافوا من الخوف الذي طالما شتتهم ودفعهم للاحتماء بالزعيم الذي كان يقودهم خرافاً نحو المسلخ. ضمدوا جراحهم وعاودوا رفع أغانيهم وأناشيدهم ليكون لهم وطن يليق بهم ويليقون بعلمه ونشيده الذي يجمعهم.  

[author title=”محرر الشؤون اللبنانية” image=”http://”]محرر الشؤون اللبنانية[/author]