في يوم واحد، خلال الاسبوع الماضي، صدر تصنيفان اقتصاديان عن لبنان وإمكانية إنقاذ أوضاعه، من مؤسستين دوليتين مشهود لهما في عالم تصنيف اقتصادات الدول والشركات. الأول أطلقته شركة “ستاندرد أند بورز” ووضع لبنان في الخانة نفسها التي كان عليها سابقاً، وهي b سلبي، أي أنها لم تهبط به إلى مرتبة أدنى مما كانت عليه. والثانية أصدرته شركة موديز، وقد هبط لبنان بموجبه إلى درجة متدنية مما كان عليه، أي أنه أصبح ccc بعدما كان b سلبي. الفارق بين التصنيفين محدود جداً ويحتاج المراقب إلى مجهر لاكتشافه. فالأولى منحت لبنان فترة سماح إضافية قصيرة لا تتعدى الأشهر القليلة في أحسن حال. أما الثانية فلم تر موجباً للمدة الإضافية، إذ إن تجربة مناقشة وإقرار الموازنة وما تضمنته، تثبت الرسوب في امتحان اعتماد خطوات اصلاحية لإنقاذ الوضع مما يتدهور فيه وإليه. هنا أيضاً لم تنفع الوعود التي سبق وقطعتها السلطات السياسية والرئاسات الثلاث والحكومة، والتي قالت إن ما لم تحققه موازنة العام 2019، ستكون موازنة العام 2020 كفيلة بتحقيقه، وستجد معها كامل البنود الاصلاحية طريقها إلى التنفيذ. وهو ما لم يعد ينطلي على الدول وشركات التصنيف. فقد سبق للبنان وتعهد بذلك مراراً وتكراراً، وأبرزها ما تعهد به أمام دول مؤتمر سيدر التي اشترطت عليه للحصول على القروض الميسرة البالغة 11 مليار دولار تحقيق الاصلاحات التي تلجم الانهيار عن متابعة اندفاعه السريع. وهو المستحيل على ضوء المعطيات السياسية التي تتميز بانفلات الصراعات البينية بين أركان الحكم، والرقمية، إذ إن موازنة العام 2020 لن تكون أحسن حالاً من سابقتها لجهة وضع المشاريع الاصلاحية موضع التنفيذ. والأجواء التي سبق وتلت صدور التصنيفين تفاعلت معها الأسواق المالية سلبياً في ضوء ارتفاع نسبة الخطورة على الإيفاء بالديون من جانب السلطات اللبنانية. وتباعاُ تعرض سعر صرف الليرة لحالة ضغط لصالح الدولار، كما أن التعامل مع أوراق الدين السيادية شهد المزيد من الخسائر المسبقًة من قيمتها أصلًا، وفي الوقت نفسه ارتفعت الفوائد على هذه الديون مع ارتفاع التأمين ضد مخاطرها. وهو ما له حساباته على صعيد لبنان وماليته العامة بعد أن باتت دولته تتعيش على الديون سواء أكانت من مصادر داخلية أو خارجية. وبديهي أن الشركتين ستبلغان زبائنهما الأجانب واللبنانيين من حاملي سندات الدين العام على لبنان بما توصلتا إليه، وسيبنى على الأمر مقتضاه السلبي. على أن الأدهى أنه لم يعد أمام لبنان سوى الانحدار إلى التصنيف f الذي يضعه في خانة الافلاس والعجز عن سداد الديون المتوجبة عليه.
والبديهي أن هذا التصنيف الراهن لا يمكن لأحد سواء أكان شركة مالية أو صندوق أممي أو دولة دائنة أن يتجاهل دلالاته، ويصح ذلك في المقام الأول على دول مؤتمر سيدر ووكالاته وصناديقه، وهل ما تزال تقبل الإيفاء بتعهداتها، بعد أن سبق وحذرت من استمرار لبنان في سياساته. والواقع أن تعهدات تلك الدول والشركات قد بنيت على موقع التصنيف السابق. أما وأن الأمور تابعت انحدارها، فقد يتطلب الأمر إعادة نظر لا بد وأن تتم، لاسيما وأن الدول والبنوك لا تضع أموالها في مواضع مشكوك بمدى ملاءتها على دفعها. ومن المعروف أن الدولة اللبنانية تدفع فوائد الديون سنوياً، دون أن تقترب من التفكير بكيفية دفع الديون الأصلية. وتبعاً لهذه الوقائع التي تعرف الدول والشركات ما هو أكثر منها، يتعاظم الشك باستمرار الدولة في الإيفاء بتعهداتها، خصوصاً وأنه بموجب التصنيف ورغم الفارق الجزئي، بات لبنان أمام صدمة إعادة النظر بأولوياته التي تتعلق بالإنقاذ السريع والملح لدرء إفلاس الدولة، وهو أمر مقدم بطبيعة الحال على مشاريع البنية التحتية التي وعدت بتمويلها دول سيدر.
وعجز لبنان عن تصحيح أوضاعه المالية والإقتصادية من خلال اصلاحات جِدّية، يخالف معايير هذه الدول، إضافة إلى المصرف الدولي ومعه صندوق النقد الدولي. أمّا دول سيدر الأوروبية فهي قد مرت بتجربة كلفتها الكثير عندما نجحت في وقف مسار تداعيات الركود الاقتصادي والأزمات المالية التي تعرضت لها كل من اليونان والبرتغال وقبرص وأسبانيا، وهي تنطلق من حساباتها الداخلية بعدما واجهت منطقة اليورو أزمة عاتية، كادت تطيح باتفاق ماستريخت وركائزه. وأما الدول العربية الخليجية المشاركة فتتريث في الإيفاء بتعهداتها لأسباب سياسية معروفة، ما يعني أن لبنان في الفخ تماماً.
على أن عجز الحكم لا يتجلى بالتحذيرات الدولية التي تلاحقت منذ أشهر، بل أن ردة فعل الحكم وأركانه كانت الإمعان في خط معاكس للانقاذ، ولا يتعلق الأمر بقصور مشروع الموازنة عن الحد من مسار الانهيار، بل أن الحكم وأركانه يتابعون التصرف وكأن البلد مجرد مزرعة لجهة إلحاق مؤسسات الدولة بأركانها تبعاً لحجم القوى. ولعل الدليل الأخير بتشكيل المجلس الدستوري، وما سيتبعه من تعيينات في دوائر الدولة وأجهزتها من محسوبين على أطراف الحكم لا يحتاج إلى تحليل لتبيان أن مشروع عودة الدولة ومؤسساتها والاصلاح والتغيير هو مجرد أوهام أمام أعين تراقب الأداء الرسمي وتضع عليه علامات رسوب متدنية جداً. أي أن لا وجود لخطة انقاذ ولاستقلالية قضاء، ولا وجود لإدارة رسمية بعيداُ عن هرم السلطة ومحاصصاتها المعروفة. وبالتالي فان العوامل التي قادت إلى الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي والتي تتطلب علاجات سياسية ليست في وارد وحسابات السلطة وأداء فرقائها. ومثل هذا الوضع يحكم أداء السلطة بمؤسساتها التشريعية والتنفيذية ويحيل القضاء إلى جهاز ملحق بالسطة السياسية. وكل هذا وصفة مثالية للاندفاع إلى الهاوية. هذا التجروء على الدولة ونهبها أغرى النائب السابق نقولا فتوش وشقيقه على تقديم دعوى في واشنطن على الدولة يطالبانها فيها بمبلغ 525 مليون دولار عقاباً لها على رفضها تسوية الدعوى التي كان أقامها في لبنان أمام مجلس شورى الدولة وربحها بالنظر إلى “إنجازاته” في تدمير بيئة لبنان وتشويه جباله.
[author title=”محرر الشؤون الاقتصادية” image=”http://”]محرر الشؤون الاقتصادية[/author]