سياسة مجتمع منشورات

نظام الطوائف كمنتج للأزمات والارتهان للخارج

لا ترقى إلى مستوى الحلول، ولا تتجاوز الهدنة المؤقتة، التي سرعان ما تنتهي مفاعيلها  وتطوى صفحتها، أمام  تعدد الأزمات المتفجرة  التي من العبث انتظار حلول لها لدى أهل الحكم، لأنها من صنع ايديهم ونتاج سياساتهم  لخدمة مصالحهم فقط لاغير.

 بالعودة للأزمة الأخيرة التي أسرت البلد ومؤسساته وحبست أنفاس مواطنيه، وبصرف النظر عن إدعاء البراءة وتبادل التهم حيال وقائعها ومجرياتها، فإن المسؤولية عنها تطال الجميع. فالأزمة لم تسقط من سماء صافية، لأن مقدماتها تسبق العهد الحالي الذي أتى حاملاً شبهة انتصار لخياراته، ومعه كل من سانده  وخاض معركته مبكراً أو متأخراً. علماً أن العهد فاقم أزمات، وأضاف أخرى تتالت فصولها، وتمثلت باستطالة مخاض تأليف الحكومة الاولى والثانية، وتأجيل استحقاق الانتخابات النيابية التي صيغ لها قانون مشوه، أنتج نفاذه توازنات أكثر اختلالاً مما كان. وقد عمد مدعوا الانتصار فيها إلى توظيفها  لفرض شروطهم بقوة التعطيل، كما في الصراع حول الصلاحيات الدستورية لإدارة البلد، وفي ربط ازماته بالمحيط المتفجر، كذلك في تصعيد مشاريع الهيمنة الطائفية والاستئثار الفئوي بالمغانم، ما جعل قواها وقادتها في حالة اشتباك دائم مع الآخرين، وفي شتى الاتجاهات.

     لقد  ساهم ما حل بالبلد في تجديد الإنقسامات الأهلية وتوليد اضطرابات اجتماعية وتوترات أمنية. وقد أصبح أمراً مألوفاً أن تقام الحواجز المتنقلة  وتنظم العراضات المسلحة، بالتزامن مع تصاعد حدة خطاب التحريض الطائفي والاصرار على استحضار مآسي الحرب الأهلية في غير سياقها، مما ساهم في ارتفاع منسوب القلق، وجعل شبح الحرب  الأهلية مقيماً، رغم أن مآسيها لا تزال قائمة وحاضرة في أذهان أكثرية اللبنانيين.

   ولأن الأزمة ليست الأولى ولن تكون الأخيرة، فإن المصالحة  الشكلية التي انتهت إليها، تضاف إلى ارشيف المصالحات، التي يصعب تعدادها على تنوع أشكالها ثنائية كانت أم ثلاثية أو أكثر. وذلك لأنها أقتصرت على أحد جوانب الأزمة المثارة وسبل معالجة ما جرى على أرض الواقع قضائياً، بعد عجز العهد وحلفائه عن إحداث انقلاب في التوازنات السياسية بين قوى السلطة وتغيّر المعادلات القائمة في أكثر من اتجاه. 

     لذلك لم يكن التصعيد الذي مُورس من العهد وقواه وحلفائه مفاجئاً، واعتماد الشعبوية الطائفية والفئوية الحزبية لاستثارة الغرائز واستحضار المخاوف، ومحاكاة أوهام التمييز والتفوق العنصري في إطار استراتيجية تستهدف تحقيق الهيمنة والسيطرة أو إلغاء  الآخرين أو إخضاعهم.  كما لم يكن مستهجناً أن تنفجر ملفات النزاع  كافة بين أهل الحكم وقوى الطبقة السياسية، حول آليات عمل النظام ومؤسساته والصلاحيات الدستورية، واستقلالية القضاء ونِسب حصص الطوائف وتفسير مواد الدستور. وهكذا أصبح البلد وأهله رهائن بين سندان وضع اقتصادي  مهدد بالإنهيار الشامل، ومطرقة أزمة نظام وحُكم تحول طرفاً، وحكومة معطلة ومفككة في آن.

     ولأن التصعيد بين مختلف الأطراف بلغ سقوفاُ عالية غير مسؤولة وطنياً، وطال قضايا وملفات يستحيل التسليم بتسويات حولها فيما بينهم، وبات العهد أمام حائط مسدود وكادت الأمور تخرج عن السيطرة، بالنظر إلى حجم التحديات المتصاعدة  والاندفاعة نحو المجهول. كل هذا أتاح مرة أخرى للسفارات الاميركية والاوروبية، وانطلاقاً من مصالح دولها، أن تمارس ضغوطها  للحفاظ على الحد الأدنى القائم  من الاستقرار الأهلي،  محذرة من الممارسات اللامسؤولة في استخدام مؤسسات الدولة، ومطالبة بوقف التصعيد وإيجاد مخارج من الازمة.

     لذا كانت المصالحة التي اتت في أعقاب  الضغوط  الخارجية، ووضعت حداً  لشلل مؤسسات الحكم، متزامنة مع تداعي أهل الحكم للانصراف إلى معالجة جوانب  الازمة الاقتصادية والمالية  والسعي للحد من المخاطر المتسارعة.   غير أن المصالحة تبقى كسابقاتها التي ألفها اللبنانيون، لا ترقى إلى مستوى الحلول، ولا تتجاوز الهدنة المؤقتة، التي سرعان ما تنتهي مفاعيلها  وتطوى صفحتها، أمام  تعدد الأزمات المتفجرة  التي من العبث انتظار حلول لها لدى أهل الحكم، لأنها من صنع ايديهم ونتاج سياساتهم  لخدمة مصالحهم فقط لاغير.

     كما وأن  التداعي لمعالجة الأزمة الاقتصادية والمالية المشرّعة على الإنهيار، وفق كل المؤشرات والتقارير المحلية والدولية، وبصرف النظر عن الإجراءات المتخذة من قبل المصرف المركزي للحد من مخاطر الإنهيار المالي، والتنسيق مع المصارف لضمان الحماية لرساميلها واستثماراتها وأرباحها، والتي تبنى وجهتها اللقاء الرئاسي الذي سبق لقاء المصالحة وفق البيان الصادر عنه. فإن تلك الدعوة لاتجد ما يؤكد استعداد أهل الحكم المباشرة بتنفيذ التعهدات الاصلاحية التي جرى اعلان الالتزام بها  في مؤتمر سيدر، بالرغم مما تنطوي عليه من مخاطر واضرار تصيب أكثرية اللبنانيين.  والسبب في ذلك  أن  معالجة الأزمات لا يقع في مدار اهتماماتهم، حيث الأولوية المطلقة والدائمة محصورة بضمان السلطة والنفوذ والسيطرة، باسم الطوائف وحقوقها واوزانها ومواقعها، بغض النظر عن المخاطر المدمرة التي يمكن أن تصيب البلد وأهله بمن فيهم من يدعون تمثيلهم. 

     وإذا كانت الأزمة الأخيرة محطة في مسيرة العهود السابقة وصولاً للعهد الراهن، إلا أنها وبمختلف أوجهها، موصولة بما سبقها، وما هو مستمر وآت وتبشر به الخطب الشعبوية  المستمرة، والتي تشكل السلاح الأمضى لتجديد ركائز النظام الطائفي الحاشدة، لتزخيم وتفعيل طموحات الهيمنة.  ولأن كل الوسائل والاساليب مباحة لتحقيق أهداف السيطرة والتحكم بالآخر، فإن كل العداوات والخصومات والتحالفات غير ثابتة، والقاعدة الذهبية التي يتجدد حضورها الدائم “ما لنا لنا وما لكم لنا ولكم”، مما يجيز للجميع التلاعب بساحات الآخرين  لتصفية الحسابات وتغيير التوازنات.

     يبقى التلاعب الأهم والأشد خطورة هو الإصرار على إبقاء البلد ساحة، حيث تتشابك  القضايا ويكاد يصعب الفصل بين مفاعيل الخارج وعوامل الداخل، أين حدود الاتصال والانفصال وكيف تصنف وتوصّف  العلاقات مع الخارج، وكم هي ارتهان له أو استقواء به. والأسئلة تطال كل الأزمات الأخرى بما فيها الأخيرة بين مكونات الطبقة السياسية، ومعها العدوان الإسرائيلي المستمر، الذي طال مؤخراُ ضاحية بيروت. وهي جميعاً لا تشكل سوى تأكيدات إضافية على رغبة مختلف الأطراف إبقاء البلد ساحة وصندوق بريد، وقد شهدنا مباريات في استسهال استمراره مرتهناً للخارج ومعرضاً للدمار، في ظل  غياب البحث الجاد في سبل حمايته وتحصينه كوطن، يشكل الانتماء له هوية، والدفاع عنه  وحمايته واجب تضطلع به أولاً دولة ومؤسسات تابعة لها، لا دولة يتنازعها حكام وزعماء طائفيين لا يغِّير من واقعهم علو نبرات أصواتهم في إدعاء العفة أو الوطنية.  

[author title=”زكي طه” image=”http://”]كتب لبناني[/author]