ثقافة

وفاة المستعرب أندريه ميكيل..مترجم “الليالي” وسجين النظام الناصري!

كتب الروائي اليمني علي المقري في فايسبوكه: “وفاة أندريه ميكيل، كبير المستعربين الفرنسيين وصديق الثقافة العربية الحميم. ارتبط اسمه بترجمة متميّزة لكتاب “ألف ليلة وليلة” والتي أنجزها مع جمال الدين بن الشيخ، إلى جانب الكثير من ترجماته ودراساته في أدب العرب وتاريخهم وجغرافيتهم. كان شديد الصلة بكل ما هو عربي، حتى إن أقرباءه، حسب كاظم جهاد، حين كانوا يتحدثون معه عن العرب يقولون له: “عَربُكَ…”. خسارة كبيرة أن يرحل هذا الاسم المهم في الثقافة العربية في وقت صارت فيه بلدان هذه الثقافة تفتقد إلى عافيتها وقدرتها على الاحتفاء بأصدقائها”.

أندريه ميكيل من رعيل العلماء الغربيين الكبار الذين تبحّروا في اللغة العربية، وكرّسوا حياتهم وأبحاثهم للكشف عن كنوز تراثها، ولد في جنوب فرنسا عام 1929، وأتم دراسته بمدرسة المعلمين العليا. درس العربية على يد المستعرب ريجيس بلاشير، وعمل عقب تخرجه في دمشق وبيروت في المعهد الفرنسي للدراسات العربية، ثم عمل في إثيوبيا فترة عامين في أواسط الخمسينيات.

ظهر أوّل شغف له في العالم العربي في عام 1946، إثر رحلة قام بها إلى شمال إفريقيا حين كان طالبًا. اكتشف الضفة الجنوبية للمتوسط من خلال محطات عديدة، قادته من تونس إلى الجزائر ثم الرباط ومراكش. يقول في مقابلة مع “مغازين ليترير”: “حدث في خان Khëgne، بمونبيلييه، بعد أن قرأت في سن الثامنة عشرعاما ترجمة للقرآن، قام بها ‘سفاري’ Savary، أغوتني هذه الترجمة. فاهتممت بها واقعيا، ولكنها كانت أيضا طريقة بالنسبة لي كي أتميز بها عن الآخرين. كل واحد يبحث عن أن يظهر بمظهر ما، تفردٌ فيه شيءٌ من التفاخرية، بالنسبة لي أنا كانت النزعة الاستشراقية هي القضية. وكي أكون دقيقا يجب القول بأنه قبل هذا التاريخ، في سنة 1946 بالثانوية حصلت على الجائزة الثانية للمباراة العامة للجغرافيا: ثمنها السفر إلى المغرب العربي، الذي ترك عندي عبر المناظر الخلابة لتونس، الجزائر، المغرب انطباعات قوية”… ويقول في مقابلة مع المعطي قبال في “العربي الجديد”: “كنت أستعد لمسابقة الدخول إلى “مدرسة المعلمين”، تملكتني رغبة جارفة لتعميق هذا “الاحتكاك” مع العالم العربي، والغوص في مجتمعاته.

وبناءً على ذلك، اقتنيتُ نسخة من القرآن الكريم، مترجمة إلى اللغة الفرنسية. وهي الترجمة التي أنجزها كلود إتيان سافاري.

عندما شرعت بقراءة النص القرآني، انجذبتُ إلى الآيات الأولى، إلى قوّتها الرمزية والإيحائية. بعد ذلك، سجّل مساري صوب العالم العربي،”انقطاعًا” أو فاصلًا طويلًا من الدراسة والبحث، قادني إلى المدرسة العليا للأستذة، École normale supérieure، ثم التحقت ببرنامج المبرّزين باللغة العربية، رغم أني لم أكن مستعدًا لذلك حقًا. ومن ثمّ ترددت في الاختيار بين التدريس في الجامعة أو الدخول في السلك الدبلوماسي. ثم سافرت إلى دمشق، حيث عشت تجربة مميزة لمدة عام”.

في دمشق، هيّأ أطروحة دكتوراه تكميلية. وبناءً على نصيحة من المستعرب ريجيس بلاشير، الذي أنجز إحدى الترجمات المرجعية للقرآن الكريم، وبدأ بترجمة كتاب “كليلة ودمنة” لابن المقفع إلى اللغة الفرنسية. يقول “في دمشق انتفض تاريخ بأكمله أمام عيني، التاريخ باعتباره محصلة إنتاج ثقافي ومعرفي”، وسرعان ما انتقل إلى مصر، وسقط ضحية ما يسميه “جنون عظمة” النظام الناصري الذي كان بحسّه العروبي يخاف الثقافة والمثقفين ويشكّ فيهما. كان ميكيل قد وصل إلى مصر لتحضير أطروحة دكتوراه دولة عن “السينما والأدب في مصر المعاصرة”، وكان أيضًا مبعوثًا من وزارة الخارجية الفرنسية لمهمة ثقافية. وبعد شهرين على وصوله وتحديدًا في يناير/ كانون الثاني ١٩٦١، اعتقلته المخابرات المصرية ووجهت إليه تهمة “التآمر ضدّ نظام جمال عبد الناصر”. يقول في مقابلة مع مجلة “مغازين ليترير” “لقد جئت في أيلول/ سبتمبر 1961، وفي شهر تشرين الثاني/ نوفمبر تم استدعائي من طرف الشرطة. وجدت نفسي صحبة فرنسيين في قبضة المصالح المختصة. تم اتهامنا بالتجسس. لا فائدة من القول بأن الاتهام لم يكن له أي معنى. لقد قضيت أربعاً وعشرين ساعة معصوب العينين دون أن أعرف أين أنا ولا ماذا سيفعلون بي. فالاستنطاقات لنقل ذلك كانت “عضلية” استغرقت عشرات الأيام، وبعد ذلك كان انتظار المحاكمة، سجنت لمدة خمسة أشهر. من تشرين الثاني/نوفمبر 1961 إلى نيسان/ أبريل 1962 خمسة أشهر لم تتمكن خلالها الدولة الفرنسية من إخراجنا من هذه الورطة. لكن في غضون ذلك، انتهت الحرب في الجزائر، ودشن أفق اتفاقات افيان Evian علاقات جديدة مع الدول العربية. أخيرا، أوقف ناصر المحاكمة وتم إرجاعي إلى الوطن. لم تطلب فرنسا ولو مجرد حتى إصلاحات معينة لجبر الضرر عندما أعيدت العلاقات الدبلوماسية إلى مجراها”. وبفضل إجادة ميكيل للغة العربية فلقد استطاع قراءة المكتوب على حوائط زنزانته بواسطة السجناء الذين سبقوه إلى الإقامة فيها، وفي الغالب الأعم منها، كانت نصوصًا من القرآن الكريم تساعد كاتبيها في التهوين عليهم من مشقة السجن ووطأته، كنوع من أنواع العزاء والسلوان. أما عن كيفية قضاء ميكيل وقته داخل الزنزانة، يحكي أنه اصطحب معه نسخة من الكتاب المقدس، ونسخة من القرآن الكريم كان يشغل وقته في قراءتهما، كما كان يُقسِّم وقته ما بين الرياضة والنوم والقراءة ودراسة اللغة العربية. كما شغل ميكيل نفسه كثيرًا بالاطلاع على أعمال عمالقة الأدب العالمي، معتبرًا أن القراءة في السجن أتاحت له «تأسيس بنيان عقلي متوازن»؛ فقرأ رواية دون كيشوت Don Quixote التي وصفها بأنها «كاتب معطاء وثري وإنساني وأوروبي وحديث، لكنه ممل»، وقرأ لأونوريه دي بلزاك Honoré de Balzac «العملاق الذي لا مثيل له»، كما اطّلع على الأعمال الكاملة لتوفيق الحكيم وعلى ثلاثية نجيب محفوظ الذي سيترجم بعض أعماله بعد خروجه من محبسه إلى الفرنسية وسيدعم ترشحه إلى جائزة نوبل للآداب.

أبعده نظام عبد الناصر عن مصر، عبر إلصاقه يافطة “جاسوس” على سيرته. وبناءً عليه، غيّر خطته بالكامل. وهي التجربة القاسية التي كتب عنها ميكيل ضمن سيرته الذاتية التي صدرت بعنوان “وجبة المساء”…

واصل ميكيل عمله وشغفه بالعربية، تولى تدريس الأدب العربي في الجامعات الفرنسية منذ سنة 1968. عمل في جامعة فانسان، وجامعة السوربون الجديدة، ثم شغل منصب مدير معهد لغات الهند والشرق وشمال إفريقيا وحضاراتها في جامعة باريس الثالثة، قبل أن يُنتخب أستاذًا لكرسي الأدب العربي في الكوليج دي فرانس عام 1975.

وفي 1984 اختير ميكيل مديرًا للمكتبة الوطنية في باريس، وكانت المرة الأولى التي يُختار فيها أحد المتخصصين في الدراسات العربية والإسلامية لهذا المنصب الرفيع. ثم عاد ميكيل عام 1986 إلى الكوليج دي فرانس، واختير سنة 1989 رئيسًا لها، وواصل خلال هذه الرحلة العلمية عطاءاته المتّصلة في مجال الأدب العربي بترجماته المتخصصة إلى الفرنسية والمقدمة للمثقف العام، أو بإلقائه للمحاضرات في الجامعات العربية بلغة عربية دقيقة، وبإشرافه على الرسائل العلمية للدارسين العرب في الجامعات الفرنسية. موقفه المؤيد والمتحيز للقضايا العربية، وبالأخص المسألة الفلسطينية، أصابه بسهام الإقصاء الفرنسي منذ ثمانينيات القرن الفائت، مع الصعود التدريجي وتنامي دور اللوبي الصهيوني في وسائط الإعلام وكذا في الأوساط الأكاديمية الفرنسية.

كتب أندري ميكيل عن أدب العشق، واهتم بشكل خاص بمجنون ليلى. ترجم أشعاره وحلل شخصيته كظاهرة، وقارنها بما يقابلها في الأدب الفرنسي. عمل على الارتقاء بقصة مجنون ليلى إلى مصاف العشق الروحي، وجعلها بذرة أولى لحركة التصوّف التي ستظهر في القرن الثالث للهجرة، في شكل نزعات فردية تدعو إلى الزهد، ثم ستتحوّل بعدئذ إلى طرق تنتشر في مختلف أصقاع البلاد الإسلامية.

إلى جانب أعماله المعروفة والغزيرة في الشّعر العربيّ القديم والحكايات العربية، وعلى رأسها “ألف ليلة وليلة”، وفي ميادين أخرى للتّرجمة والبحث، قدم للمكتبة العالمية كتاب المقدسي “أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم” ومختارات من الشعر العربي. لكن أهم أعماله هو كتابُه الموسوعي عن “جغرافية دار الإسلام البشرية”، وكتابه “الإسلام وحضارته”.

عندما شرع بتأليف “جغرافية دار الإسلام البشرية” وضع أمامه هدفاً، وهو تناوُل نصوص هذه الجغرافية ليس باعتبارها شواهد على الواقع التاريخي الموضوعي، بل إحياءُ عالم مُتخيَّل كوَّنته ضمائر البشر آنذاك، وأدركته وتخيلته. وسؤاله الأهم: ماذا كان يعني البحر، والنهر، والمدينة، والضريبة والحدود، من وجهة نظر مسلم عاش قبل ألف عام وتصوره.

*نشرت في الزميلة المدن الالكترونية يوم الأربعاء في 2022/12/28

 

اندريه ميكال وكتاب الكتب

زهير هواري

من لم يقرأ “جغرافية دار الاسلام البشرية حتى القرن الحادي عشر ” بأجزائه لا يعرف شيئا عن الجهد المضني الذي بذله أندريه ميكال في جمع مادته وتبويبها على فصول كتابه الموسوعي هذا. كما لا يمكنه أن يدرك مدى الإضافة التي قدمها هو وأمثاله من المستشرقين للثقافة العربية والاسلامية، وجلاءً للتراث العظيم الذي قدمه أجدادنا من مؤرخين وجغرافيين ورحالة جابوا على أقدامهم أو جمالهم تلك البلاد الواسعة، معرضين أنفسهم لشتى المخاطر، قاطعين المسافات البعيدة الخالية من نأمة الحياة، واصفين مواقعها وطرقها وأهلها بعاداتهم وتقاليدهم ومآكلهم ومشاربهم وعمران مدنهم والاسواق، وما تحويه من البضائع التي تتكدس في مخازنها ومصادرها وأسعارها ، وما هو مستورد من خارجها وما هو مصنوع بأيدي حرفييها، كما عاينوا جبالها وصحاريها وأنهرها وبحارها وبحيراتها، وبعضاً من تاريخها، واستمعوا إلى من صادفوه من تجار القوافل البعيدة في رحلاتهم الملحمية ناقلين عنهم ما لم تصل إليه رحلاتهم العظيمة. أن تجمع علوم الفلك والجغرافية والتاريخ والعادات والتقاليد والادب والعمران والتآليف والوصف في كتاب واحد هو كتاب الكتب، وهذا ليس بالأمر السهل أو اليسير، ويتطلب عقلاً مكتنزاً بالعلم وإرادة من فولاذ الصبر. وهو ما فعله ميكال مقتفياً آثار أجدادنا في رؤيتهم للكون بما  يتخلله من نجوم وكواكب ومراصد وشكل الارض، وما تتخلل جغرافيتها من بحار ومحيطات وينابيع وأنهر وبحيرات ومفازات وعجائب وقفار وعمران آدمي، صنعته أيادٍ ماهرة بالعلاقة مع عبقرية المكان، لجعله ملائماً و قابلاً للعيش البشري.

قال استرابون أن علم الجغرافيا هو علم الحملقة في الخريطة. وبالطبع رسم أجدادنا هؤلاء خرائط للأماكن التي قصدوها، وأصلحوا خرائط علماء اليونان، وفسروا ما كان عصياً على التفسير في ذلك المفصل من الزمن، ضمن ذاك المستوى من المعارف. أما اندريه ميكال فحملق في مصادرنا المهملة ووضع خارطة لمعارفنا مبيناً مدى كثافة ثرائها الواسع. من السهل على البعض وصم هذا الجهد الذي بذله ميكال وأمثاله بأنه تعبير عن مركزية أوروبية أو نزعة استشراقية تبعاً للتعبير الذي استخدمه ادوارد سعيد وشاع في الادبيات، كلما نظر أحدهم لمساهمة غربية ما في فهم وسبر أغوار مجتمعاتنا، وما مرت به من أحداث وحوادث. المتأسلمون أراحوا أنفسهم من عبء قراءة تلك المغامرات الفكرية، إذ اعتبروا القائمين بها وعليها، مجرد جواسيس في خدمة الاستعمار الغربي ومكلفين منه. وهدفهم ليس أكثر من تشويه صورة الاسلام والمسلمين. أراحوا أنفسهم من مجرد القراءة، ومعرفة ما تضمنته تلك الاعمال من مقاربات، وما تطلبته عملية معرفة العربية أولاً والبحث عن المصادر الموثوقة والمرموقة، وتدوين معطياتها وتقميشها وصياغتها من جهد، مصرين على تمضية أيامهم وسنواتهم  في اجترار بعض ما جاء في الكثير من فتاوى الكتب العتيقة، دون أن يفقهوا منها أكثر مما يرغبون، أو يستوعبوا أهمية المكان بتناقضاته والزمان بتحولاته.

لم يلتفت أحد من هؤلاء وأولئك إلى مدى الفقر الذي نعانيه، وأسبابه وعوامل قصورنا عن إعادة تقديم تراثنا على نحو يضعه في مصاف تراث الانسانية وباقي البشر، ما يتطلب سنوات من البحث والتنقيب والتبويب والفهرسة والتأليف. لا أحد كتب كتاباً يشبه كتاب اندريه ميكال بالنظر إلى شموله وإتساع أفقه ورحابة ما عالجه من موضوعات. من الجغرافية كما شاهدها وعاينها مؤرخونا أو قرأوا عن عناصرها. لست بحاجة إلى قراءة عشرات المؤلفات التي دونها الرواد لتتعرف على ما قدمه العقل العربي – الاسلامي من معرفة في هذا الجانب. وهو كثير وكبير كونه جمع أدب الرحلات إلى أدآب الحياة، والتحقيق إلى التدقيق. وكلها معارف كانت في أصل الكشوفات الجغرافية قرب نهايات القرن الخامس عشر الميلادي، لتدرك أن هؤلاء الناس كانت لديهم المقدرة والمعرفة والعزيمة على كتابة تاريخ وجغرافية العالم والكون، كما كانت عليه خلال عصورهم. وهؤلاء لم تموِّل جهودهم وتفانيهم ملكات وملوك وشركات تهدف إلى استعمار الشعوب ونهب الآثار والمعادن واحتلال المواقع والمساحات وسرقة خيراتها. فعلوا ما فعلوه بهدف الايمان بالعلم ولدفعه خطوات إلى الأمام عما كان عليه ، وصار إليه بهم ومعهم.

وحده اندريه ميكال من استطاع أن يقدم لنا معارفهم وثمرة جهودهم بعد سنوات من الكدح والتنقيب والغربلة مقتفياً المنهج العلمي الاكاديمي الصارم في إعادة نبش كنوزهم المدفونة في ألوف الصفحات، التي لا تجد من يميط عنها لثام النسيان. ليس صحيحاً رجم التراث كما يفعل البعض، ووصم شعوبنا بأنها لم تقدم شيئا للانسان. لنعترف بصراحة نحن في حاضرنا الذين لم نفعل، لأننا افتقدنا المؤسسات العلمية، بما فيها الجامعات التي لا يملك المشرفون عليها وأهلها فضيلة بذل الجهد في مجال البحث العلمي الصابر والمثابر، وصولاً إلى إنتاج المعرفة القابلة للحياة. كثيرون بات الموقع العلمي مجرد شهادة ومركز وراتب وروتين، يمارسونه دون فضيلة شغف الاكتشاف والإضافة إلى المعرفة البشرية. أما الافراد الذين ضربوا مجاذيفهم بالماء الهائجة وأبحروا عكس التيار، وأعملوا جهدهم في التفكر والسهر والمكابدة، فقد جرى تهميشهم من جانب سلطات سياسية أو “علمية ” أو أكاديمية، لم يكن يعنيها من الامر سوى الحفاظ على سلطاتها وسلطانها مستكينة إلى كسل لا قيامة منه.  لكل ذلك كانت بنية من هذا النوع حيث الاستبداد بشتى مراتبه كفيلة بوأد خضرة هذه الاشجار التي نمت في حدائق المعرفة التاريخية والجغرافية والعلمية التي اكتسبتها من نزاهتها وكرامتها الوطنية والقومية ومن خلال دراستها في معاهد وجامعات الغرب.

في حديث له العام 2015 إلى صحيفة عربية هي “العربي الجديد” قال ميكال: نشأتُ في بيئة تآلف فيها وبشكل طبيعي، العقل والنقل. وعشت على تراث أسّسه الفلاسفة العرب الذين أثّروا بشكل قوي في المنظومة الفكرية الأوروبية في القرون الوسطى. وفي ظلّ غياب تاريخ ديناميكي وفاعل، يقتات العرب اليوم على حنين إلى عصرهم الذهبي، أو على حنين لنقاوة الإسلام غبّ بداياته. وتجيء هذه “الانفلاتات” – يقصد هنا داعش وأخواتها ومثيلاتها –  التي تعيشها المجتمعات العربية حاليًا، وقد أدّت إلى الانهيار وإراقة الدماء وتكميم الأفواه والنزوح المستدام، لتعمّق من جراح هذا الحنين. يختم: “على أية حال سأظلّ دائما مناصراً للأنوار ضدّ الظلامية، ومناصراً للحرية والعدالة ضدّ القهر والجور”.

الآن يخسر العرب وقضاياهم صديقاً كبيراً وعالماً موسوعياً بتراثهم الادبي والقصصي والتاريخي والجغرافي والفكري. علم يذكِّر بكبار المستشرقين الذين أضافوا إلى فهمنا فهماً لما كنا عليه من ذرى  ووهاد ليست خارج مكر التاريخ وتلاعبه، وصراعات المجتمع وتناقضاته. لا يرف للكثيرين عين تتحسر على ما وصلنا إليه من جدب وقحط، ومن انتظار أن يأتينا من أساتذة ومراكز أبحاث الغرب، ما يبل الظمأ لمعرفة حقيقية ببعض تراثنا المهمل والمنسي في غمرة تفاهتنا، واستغراقنا في متابعة بطولات زعمائنا وثروات وموجودات مافياتنا ومشاريعها المزخرفة والمبهرجة بالقنوات والوسائط الاعلامية الملونة والزائفة في الوقت نفسه.

وداعاً اندريه ميكال… وشمعة نور على ضريحك، وسط صمت وظلام سواد واقعنا الحالك، الذي كنت نصيراً لنا عليه، دفاعاً عن الحرية والعدالة ورفضاً للظلم والجور اللذيْن نتعرض لهما صبح مساء.

Leave a Comment