نجوى بركات*
لسنا ندري كم أصبح عددهم بالضبط، وهو، مهما كان مرتفعا، مرشّحٌ لأن يزداد ويتفاقم يوما بعد يوم. غرقى البؤس واللامبالاة، أولئك الذين يجمعون جنى أعمارهم ويبيعون ما يملكون ويستدينون ما يفوق مقدرتهم على الإيفاء، فقط من أجل الصعود على مركبٍ سيودي بهم إلى الموت. نحن، الجالسين على البرّ، بأمان، لا يمكننا أن نفهم كيف يحمل أحدُهم أطفالَه ويمضي من دون أدنى يقين أنه سيبلغ وإياهم وجهته. لا نستوعب كيف يُجازف بحياته وبحياة صغار أبرياء، على الرغم من علمه بالمصائر السوداء لمن سبقوه إلى مثل هذه المغامرة. لا يمكننا أن نفهم لأننا لم نخبر جوعَه، ذلَّه، يأسَه، شروط عيشه، لا بل احتضاره البطيء الذي يدفعه إلى أن يرى الموت هيّنا، مقبولا، نظرا إلى ما يُجبره عيشُه على أن يعانيه.
150 راكباً لبنانياً وسورياً وفلسطينياً غادروا من بلدة المنية الأسبوع الماضي، على ظهر مركبٍ غرق في المياه بعد ساعتين اثنتين من ابتعاده عن الشاطئ، فجرفت الأمواج الجثث باتجاه الساحل السوري، وتحديداً جزيرة أرواد وشاطئ طرطوس. ساعتان! لا نستطيع أن نمنع أنفسنا من التفكير في صاحب المركب، مدبّر الرحلة التي كان يُفترض بها أن تحملهم إلى إيطاليا، في كيف أنه لم يرَ أن عليه أن يبذُل أدنى مجهودٍ لتجهيز مركبٍ يمكنه الإبحار كل تلك المسافة، أو أقله لأكثر من ساعتين. لقد كثر تجّار الأرواح وبائعو الموت، وهم باتوا يستخسرون هدر المال على أرواحٍ مرشّحة سلفًا لأن تنفق. أجل، هم بشر، لكنهم ينفقون كالبهائم، من دون محاسبة أو حساب، لا أحد يسأل عنهم، أو يسائل المجرمين الذين يقودونهم إلى حتفهم، هذا حين لا يكونون متواطئين مع جهاتٍ مسؤولة وقوة أمنية. حتى “محبو” حقوق الإنسان والمدافعون عنها من الأمم التي تحترم شعوبها، باتوا يغضّون الطرفّ، أو يعمدون إلى تكليف جهاتٍ رسمية وغير رسمية بإيجاد السبل الناجعة لوقف “تسونامي” المهاجرين الزاحفين إلى أوروبا طلبا للّجوء. ما النفع إذن من توفير مركبٍ يكلّفه مبلغا أكبر، يفكّر بائعُ مثل تلك الرحلات غير الشرعية، طالما أن الحمولة الزائدة سوف تُفضي حتما إلى غرقهم. وحتى لو حالفهم الحظ وتسنّى لهم أن يصعدوا على مركبٍ متين، فثمّة من سيتصيّدهم في البحر ويُعيدهم إلى حيث كانوا، مُصادِرا المركب إلى غير رجعة.
في الأيام التي سبقت هذه الفاجعة، شاهدنا لاجئيْن سورييْن وصلا إلى ألمانيا، يتحدّثان عن الرحلة التي قاما بها ما بين 27 أغسطس/ آب وحتى 14 سبتمبر/ أيلول على متن قارب صغير حمل 32 شخصًا، توفي منهم ستة، من بينهم طفلاهما، الرضيع يبلغ من العمر ثلاث سنوات، من البرد والحمّى. في مقابلة تلفزيونية معها، أخبرت الوالدة الشابّة، وتدعى مجد عادل، أنها رمت طفليها في عرض البحر بعد فقدان الأمل بالنجاة، وظنّها أن الجميع سيموتون بعد نفاد الماء والغذاء، ونصحت الجميع بأن يفكّروا قبل خوض تجربة الهجرة، وخصوصا أنهم تعرّضوا للخداع ولم يركبوا الباخرة التي وُعدوا بركوبها مقابل عشرين ألف يورو استدانوها. وإذ سألها المذيع إن كان قد ندمت وقد تسبّبت الرحلة بموت طفليها، أجابت إنهما كانا سيموتان أينما وُجدا، ولو في منزلهما، لأنها إرادة الله!
نحن أمام تراجيديا فظيعة بكل مقاييس الفظاعة، لكنها حتما ليست إرادة الله أن يموت أطفالٌ أبرياء بردا وجوعا وغرقا، وليست إرادته أن تغرق مراكب ليس فيها أدنى شروط الأمان يوفّرها مجرمون ليس لهم ضمائر ولا هم في خشية من عقاب، وليست إرادته أن يُترك فقراء يتخبطون في بؤسهم ويأسهم وجوعهم وأن يكون الحلّ الوحيد المتاح أمامهم هو إلقاء أنفسهم في النار، وليست إرادة الله أن تُلقى بلدانٌ بأسرها في فم حيتان الحرب والعوز والفساد والاستبداد والمال.
*نشرت في العربي الجديد في 27 ايلول/ سبتمبر 2022
Leave a Comment