سياسة

الانتفاضة الايرانية تضع سلطة المؤسسة الدينية أمام محك حقوق الشعب

زاهي البقاعي

عبر مزيج مركب من القمع الجسدي والايديولوجيا والقوة الناعمة، أمكن للسلطات الايرانية سابقاَ، وأد الانتفاضات التي تتالت خلال الأعوام الأخيرة. تباينت عناوين التحركات، التي جوبهت بالرصاص الحي يمزق صدور الناس التي دُفعت للنزول إلى الشوارع احتجاجاً. فمن تحسين الأوضاع المعيشية إلى تطوير الخدمات العامة وتأمين مياه الشرب النظيفة وضبط الأسعار وتوفير السلع في الأسواق، إلى الاحتجاج على سقوط المباني التي تنفذها شركات تابعة للحرس الثوري وغيرها من عوامل.

هذه المرة، قد يتوهم البعض أن السبب هو مصير الفتاة الكردية مهسا أميني – للمناسبة اسمها الكردي الفعلي هو جينا أميني، وتلجأ السلطات الايرانية لتغيير أسماء الاشخاص والأمكنة التي تعبر عن خصوصية الاقليات إلى أسماء تعود إلى القومية الفارسية كتعبير عن طمس الهويات القومية والدينية – التي قُتلت على أيدي شرطة الآداب “المطاوعين” الايرانيين في اقبية التعذيب، كونها ارتدت الحجاب بطريقة غير محتشمة. ما يعني أنها خالفت القوانين، التي تُرغم النساء  الايرانيات على وضع الحجاب لدى خروجهن من بيوتهن إلى الأماكن العامة.

الفعلي أن الانتفاضة التي شملت المدن الايرانية في عموم المحافظات ومن سائر القوميات والاثنيات والطبقات تقريباً، تجاوزت مسألة الحجاب، وطرحت  قضية بالغة الخطورة تتمثل في الاستهداف المباشر للسلطة الدينية الحاكمة التي يتربع على رأسها المرشد الأعلى علي خامنئي ورئيس البلاد ابراهيم رئيسي، فضلاً عن المؤسسة الدينية وما يرتبط بها من أجهزة ومؤسسات أمنية وعسكرية، تهيمن على البلاد بما فيها الاقتصاد، الذي يعاني من أزمات متراكمة، ليس بسبب الحصار والمقاطعة المفروضين على البلاد، بقدر ما هو نتيجة نشوء طبقة من المتربحين من المال العام وعلى حساب عموم المواطنين، مضافاً لها أكلاف التمدد الايراني المادية والبشرية في المنطقة العربية.

يلاحظ على التحركات الأخيرة مدى عمق النهضة النسوية التي تولت قيادتها والمشاركة في تظاهرات الاحتجاج، والمطالبة بحرية المرأة في لباسها وسلوكها وموقعها في المجتمع. فالمرأة الايرانية سواء في داخل البلاد أو خارجها تعلن خروجها على التقليد الذي يعتبرها “ناقصة عقل ودين”، من خلال نضالاتها في مواجهة السلطة واجهزتها البوليسية ومحاصرتها لدورها.

إذن الميزة الأبرز للتحركات الحالية هي خروج المرأة الايرانية للرد على ما تتعرض له من انتهاكات وارتكابات، والتي يشكل الحجاب رمزاً لها، من خلال خلعه واحراقه بالنيران المشتعلة في الشوارع ، للدلالة على رفضها الاستمرار في موقعها الدوني في المجتمع، مربوطة إلى كم هائل من التقاليد البالية التي تحرسها الفتاوى، التي لم يعد بمكنتها مواصلة الحياة من خلال الالتزام بها. إن احراق الحجاب يعني التمرد على السلطة الدينية، التي تملك دون سواها الحق في تفسير النص المقدس وفرضه من خلال أجهزتها القمعية المتعددة.

أيضاً كان لافتاً انتقال التحركات إلى المدن الايرانية “المقدسة” في قم ومشهد وغيرها من حواضر دينية، لرجال الدين وزن في قرارها، في لحظة تخوض فيها هذه السلطات معركة المرجعية مع التشييع العربي في العراق وغيره، حيث تُمارس كل الضغوط الممكنة للاعتراف بمرجعية الولي الفقيه الخامنئي دون سواه. ولعل ما شهدته قم والنجف وما يتعرض له المرجع علي السيستاني الذي يرفض حتى الآن الاعتراف بمرجعية ولي الفقيه في طهران هو نموذج. ومثله كان ما تعرض له المرجع الشيعي اللبناني الراحل السيد محمد حسين فضل الله، والذي خونته بيانات صدرت من أنصار المرجعية الايرانية.

كذلك، فإن دخول هذه المدن ومشاركة فئات اجتماعية متنوعة خاصة في العاصمة طهران، يحدث بالتزامن مع حديث متواتر عن تدهور صحة خامنئي، وعن أزمة مفتوحة على مسالة خلافته، وما يرتبط بها من صراعات بين مراكز القوى. ما ساهم بتوسع التحركات لتشمل معظم المدن في 29 من أصل 31 محافظة. ويعد هذا الامر تحولاً لافتاً في بلد تعاني نخبه خارج اطار المؤسستين الدينية والعسكرية، من تهميش ملحوظ في المشاركة بقرار البلاد التي تدار ضمن حلقة ضيقة، لا تلحظ اعتباراً لمصالح أكثرية فئات المجتمع.

يؤكد ذلك مشاركة الطلاب في التحركات التي خرجت من أحرام الجامعات خصوصاً في مدن طهران وتبريز ومشهد وغيرها. لذلك لم تستطع القوى القمعية من باسيج وحرس ثوري وغيرها التدخل في لحظة الذروة. ما جعلها تتربص تراجع موجة التحركات للانقضاض على الحشود التي يزخر بها الشارع. إن مشاركة طلاب الجامعات والمدارس في تحركات الشارع بما يضمه من فئات اجتماعية أخرى يعبّر عن مدى العزلة التي يتخبط بها النظام داخلياً وحول سياساته الخارجية، في ظل اطباق الحصار عليه من جانب اميركا وحلفائها الغربيين والدول العربية.

ويسجل المراقبون أيضاً وضوح الشعارات السياسية التي عبر عنها المنتفضون، فإحراق صور خامنئي ورئيسي كان هو العنوان المعلن، لكن في العمق كان المتظاهرون يصوبون على المؤسسة الدينية ـ السياسية الحاكمة، التي تحرص دوماً على تقديم نفسها قوة مواجهة للاستكبار العالمي وعلى رأسه الولايات المتحدة، واتهام كل منتفض بالتعامل معها، وتلقي الأموال والدعم منها، باعتبار أن دولة الولي الفقيه هي دولة العدل والحق الآلهي.

في الوقت ذاته، وفيما الشوارع لا تزال تضج بالمتظاهرين، تستمر الجاليات الايرانية التي هجَّرها النظام على مدى 43 عاماً في تنظيم تحركات صاخبة في معظم العواصم العالمية، وهي تحركات شارك فيها مبعدون سياسيون وفنانون ومخرجون وكتاب وصحافيون ومواطنون عاديون فروا من جور النظام، بعد أن تعرض أفراد من أسرهم للشنق على أيدي “محاكم التفتيش” التي كان رئيسي أحد أركانها، بدعم ورعاية من المرشد الأعلى الأول والثاني، والتي قادت إلى ازهاق حياة أكثر من 30 ألف سجين، لا تعترف السلطات بتصفيتهم على أيدي جلاديها الملوثة بدماء نساء ورجال ناضلوا أضعاف ما قدمه المجتمع الديني لإزاحة سلطة الشاه عن صدر البلاد، فكان جزاؤهم جزاء “سنمار” على ما تروي القصة القديمة.

وسط هذا المناخ المضطرب تحاول ايران تصدير أزمتها من خلال الإدعاء عن مسؤولية دول خارجية عن الحراك، سواء في العراق (كردستان) أو سواه لتبرير ارتفاع منسوب القمع. وتتراوح الارقام المتداولة بين 70 و140 ضحية، أما الجرحى فقد قدرتهم السلطات بحوالي خمسماية مصاب، بينما قدرتهم المعارضة بما يقارب 1500، يضاف إليهم خمسة الآف معتقل من المدنيين العزل.

والحقيقة أن السلطة الايرانية من المستحيل عليها الاعتراف بفشل سياستها ذات الأبعاد الطائفية العنصرية الاثنية الطبقية التوسعية، وأنه لم يعد ممكنا ابقاء الشعب الايراني أسير ما تضخه أجهزة اعلام النظام من نظريات تنتمي إلى العصور الوسطى، في اطار محاولاتها للتغطية على سياساتها النووية لتصنيع القنبلة الذرية وانتاج الصواريخ البالستية وعسكرة البلاد، بما تفرضه من الاكلاف على الصعيدين السياسي والمالي. والذي لم يعد يستحق هذا الثمن الفادح، فيما البلاد أحوج ما تكون إلى المشاريع التنموية التي تحد من البطالة وتوفر الخدمات وتضيق الفجوة الاجتماعية المتسعة باستمرار.

الآن ما تزال الاحتمالات مفتوحة على مصراعيها في ايران، وقطع الانترنت عن البلاد لن يكبح جماح هذا التطور الذي ينادي بالديمقراطية والعدالة والحريات وسقوط الديكتاتورية المتسربلة بالثوب الديني. ورغم أنه مسار طويل لتحقيق مثل هذه الاهداف، إلا أنه سيكون للتطورات الراهنة تداعياتها، ليس فقط على صعيد الداخل الايراني، بل على مصير وأوضاع المنطقة بأسرها، بعد أن تورم نفوذ ايران، وهيمن على عواصم ودول وشعوب عربية من اليمن إلى لبنان مروراً بالعراق وسوريا. وهو نفوذ أنتج ما انتج من استباحة وتمزيق وتشويه سياسي وثقافي واقتصادي لبنيتها وكياناتها ومجتمعاتها… جملة هذه الأوهام التوسعية كانت تتم على حساب الشعب الايراني، الذي ضاق ذرعاً بهذه الطموحات التي لا أساس لها، بما فيها امتلاك الاسلحة النووية، والتي لم تترك مقولة الا وروجت لها لإعطاء معركتها بعدها القومي والعقائدي والسياسي والروحي والماورائي الذي لا يطعم خبزاً ولا يعترف بحقوق الانسان.

Leave a Comment