عبدالناصر العايد*
توالت الأحداث والإشارات الأمنية والإعلامية والدبلوماسية، مع توترات كبيرة وغامضة في إقليم الشرق الأوسط خلال الأسابيع الأخيرة الماضية: من تدفق القوات والأسلحة الأميركية الملحوظ إلى المنطقة، إلى أحداث لبنان وطلب العديد الدول من رعاياها مغادرته.. أو تصاعد الأحداث الأمنية في سوريا من تفجير السيدة زينب إلى اغتيالات درعا إلى مجزرة بادية الميادين التي تبناها تنظيم “داعش”، والتي سبقها تمرد لمجلس دير الزور العسكري المكون من عشائر عربية، على القيادة الكردية لقوات سوريا الديموقراطية.. أو في العراق الذي يشهد استنفاراً للمليشيات الإيرانية.. أو في الخليج العربي الذي تتصاعد حرارته مع الصراع المستجد على حقل الدرة أو تسخين الصراعات التقليدية بين ضفتيه الإيرانية والعربية…
نستطيع أن نجازف بالقول إن ما يحدث ليس اضطراباً تقليدياً مما يعتري المنطقة بين الحين والآخر، وأن مبعثه ورشة هدم وبناء كبيرة بقيادة واشنطن، تسعى من خلالها إلى إعادة تشكيل الشرق الأوسط وصياغة معادلات جيوسياسية جديدة فيه..وأن هذا التوجه سيستغرق العقد المقبل برمته، ويطبعه بطابعه الذي سيمتد إلى عقود أخرى فيما لو نجحت المساعي الحالية.
يمكننا اعتبار التطبيع الخليجي مع إسرائيل، أو السعودي بالأحرى، أبرز مظاهر الهندسة المقترحة، لكنه ليس أبرز نتائجها أو أهدافها، بل أن اتفاقاً من هذا النوع ليس سوى منصة للقفز إلى الهدف الأصعب وهو تفكيك نظام الحكم في إيران، والذي بدوره يؤدي إلى الغاية النهائية للاستراتيجية الأميركية، فهذه تضع نصب عينيها محاصرة وخنق الصين، وتحييد حلفائها الذين تسوّر صعودها بهم.
تفترض واشنطن أن نجاحها بتشكيل حلف دفاعي يضم حلفاءها في الإقليم، سيؤدي تلقائياً إلى حقبة ازدهار، كتلك التي تشهدها أوروبا تحت حماية حلف الناتو، أو حتى الازدهار الذي تنعم به اليابان وكوريا الجنوبية وتايوان. وهذا معقول بالنظر إلى الفوائض المالية والبشرية الهائلة في الإقليم، لكن هذا الطموح يتجاهل فائض الصراعات الكامنة والملتهبة في المنطقة المتصدّعة، والتي سيكون من الصعب السيطرة عليها من دون التضحية بالقيم الإنسانية التي قامت عليها النهضة الفعلية للدول والمناطق التي يقارن بينها وبين دول الشرق الأوسط. وفي السياق الحالي، لا يمكن تصور أن تكون “الحرية” أو الديموقراطية، سمة ممكنة أو مرغوباً فيها من قبل الأنظمة التي يتوقع انخراطها في هذا المشروع، وهذا قد يبدو شيئاً نافلاً في الواقع الراهن، لكنه لن يكون منسجماً مع التقدم إن حصل، وسيؤدي العناق بين الحرية وأشباح الماضي إلى انفجارات غير متوقعة، خصوصاً من قبل القوى والفئات التي ستغفلها هذه الرؤية وستتجاوز مصالحها ووجودها.
إذا غضضنا الطرف عن المخاوف والمعضلات التي تكمن في التفاصيل، فإن المشروع إذا تقدم، سيحوّل جزءاً من منطقتنا إلى منطقة “غربية” ثقافياً واجتماعياً، وسيضع حداً فاصلاً صلباً سياسياً واقتصادياً مع “الشرق” الذي تمثله الصين وروسيا وإيران، وسيتعين تثبيت ذلك الحد أولاً قبل أن يتقدم خطوة أخرى إلى الأمام، أي الامتداد نحو إيران.
تعطي التصريحات الأميركية المتفائلة بحذر، انطباعاً بأن الصفقة ممكنة، وتغذي الحركة المكوكية لجيك سوليفان مستشار الأمن القومي، وبريت ماكغورك منسق مجلس الأمن القومي للشرق الأوسط، أمل إدارة بايدن في تحقيق اختراق في العلاقات الدولية، يضع الشرق الأوسط في منطقة السيادة الأميركية حتى زمن طويل، بعدما سادت نظرة متشائمة تفيد بانسحاب واشنطن بلا عودة من أرض النفط والصراع على الرمال المتحركة.
ومع عودتها المحتملة هذه، وتشكيل وجه المنطقة وهندستها، لن يكون الخاسرون فقط هم أولئك الذين يضعون أنفسهم على السكة المواجهة، فأعداء واشنطن قد يفوزون ببعض المكاسب أيضاً بفضل الصراع. من سيخسر على نحو مؤكد هم من سيتنحون جانباً ويضعون أنفسهم في مواقع المُشاهد والشاهد على لحظة التحول الكبيرة هذه.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الأحد 2023/08/13
Leave a Comment