اقتصاد

كيف نُهبت أموال المودعين عبر سياسات وهندسات سلامة؟ حلف جهنمي نفَّذَّ الجريمة مع السلطات السياسة والمصرفية

 زهير هواري

بيروت 18 آب 2023 ـ بيروت الحرية

قبل أن تُنشر مقتطفات من تقرير الفاريز أند مارسال على نطاق محلي كانت العديد من الدول الغربية تشد الخناق على عنق حاكم مصرف لبنان السابق رياض سلامة، وعلى ابنه نَدي وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حويّك وصديقته وشريكته آنا كوزاكوفا. فبعد التحرّك القضائي الأوروبي، قامت الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة (بريطانيا) وكندا، بفرض عقوبات على الحاكم السابق وشركائه. ومن المعروف أنه سبقه التحقيق مع سلامة أو حوله في كل من فرنسا والمانيا وسويسرا ولوكسمبورغ.

مكتب مراقبة الأصول الأجنبية التابع لوزارة الخزانة الأمريكية (OFAC) قدم مطالعة حول قراره قال فيها إن “أفعال رياض سلامة الفاسدة وغير القانونية، ساهمت في انهيار سيادة القانون في لبنان. وأساء سلامة استغلال منصبه في السلطة لإثراء نفسه وشركائه من خلال تحويل مئات الملايين من الدولارات عبر شركات وهمية للاستثمار في العقارات الأوروبية”. أما المقرّبون منه، فقد “ساعدوا في إخفاء وتسهيل هذا النشاط الفاسد”. وبموجب ذلك تم حظر جميع ممتلكاتهم ومصالحهم ومعاملاتهم في اميركا، أو تلك التي في حوزة سيطرة أشخاص اميركيين. لكن هذه العقوبات “لا تشمل مصرف لبنان أو علاقة البنك المراسل في الولايات المتحدة مع مصرف لبنان. كما لا ينبغي اعتبار مصرف لبنان ولا أصوله، محظورة”.

وفي المملكة المتحدة، فُرضت العقوبات نظراً “لدور المتورّطين في تحويل أكثر من 300 مليون دولار من أموال مصرف لبنان لتحقيق مكاسب شخصية”. ومنع المتورّطين من السفر وتجميد أصولهم.

وقال اللورد طارق أحمد، وهو وزير الدولة للشرق الأوسط وشمال إفريقيا وجنوب آسيا والأمم المتحدة في وزارة الخارجية والكومنولث والتنمية (FCDO) ، أن سلامة وأعوانه “سرقوا من اللبنانيين وحرموهم من الموارد الضرورية لاستقرارهم الاقتصادي والاجتماعي”.

محلياً، حاول وزير المالية يوسف الخليل تأخيرإرسال تقرير التدقيق الجنائي إلى مجلس الوزراء ما أمكنه الأمر. فالتقرير بقي في عهدته تحت ذريعة أنه تقرير أوّلي،  ووعد أنه عند صدور التقرير النهائي، فسيرسله مباشرة. لكن مجلس شورى الدولة أصدر حكماً قضى بإلزام وزير المالية الإفراج عنه، وتسليمه للنواب والجمعيات الحقوقية التي طالبت به، وهكذا وجد الخليل نفسه محاصراً. يمكن القول إن ماجاء في التقرير يكَشَفَ عن جوانب كثيرة من مسار أداء مصرف لبنان، بما فيه الصلاحيات المطلقة التي كان يتمتّع بها الحاكم السابق للمصرف المركزي رياض سلامة، فضلاً عن غياب أدوار أعضاء المجلس المركزي. كما يبيَّنَ التقرير كيف كان سلامة يتلاعب بالأرقام، ليظهِرَ صورة إيجابية لحسابات المصرف المركزي، وكيف استفاد من مركزه لمراكمة ثروة مالية هائلة، حوَّلَ معظمها إلى حسابات مصرفية في الخارج. علماً أنه لم يكن وحيداً في هذه المهمة التي جاراه فيها رؤساء ووزراء ونواب واعلاميون وغيرهم. وكل منهم فعل ذلك لغاية في جيب “يعقوب”.

والتقرير الجنائي لشركة الفاريز أند مارسال وعلى امتداد 323 صفحة ( يقال أيضاً أن هناك 30 صفحة جرى التعتيم عليها)، يوثِّق عمليات مصرف لبنان خلال 5 سنوات تمتد بين بداية العام 2015 ونهاية العام 2020. حيث يظهر منه بوضوح أن حساب رأس مال مصرف لبنان يحقق عجزاً، على عكس ما كان يروّج له سلامة طيلة سنوات. ويتبين منه أن المشكلة سابقة على الانهيار العظيم بسنوات. فأصول المصرف المركزي في العام 2015 حققت عجزاً بمعدّل 20.9 تريليون ليرة، إذ بلغت الأصول 104 تريليون ليرة في حين بلغت المطلوبات 124.9 تريليون ليرة. أما في العام 2020 فقد ارتفع العجز إلى معدّل 73 تريليون ليرة. علماً أن المركزي حقق في العام 2015 فائضاً في العملات الأجنبية بقيمة 7.2 مليار دولار، سرعان ما انقلبت في العام 2020 إلى عجز بقيمة 50.7 مليار دولار.

يظهر التقرير الأموال التي بدّدها سلامة تحت عناوين متعددة، استفاد منها هو وشقيقه رجا ومساعدته ماريان حوِّيك وعدد كبير من الأفراد والمؤسسات، فضلاً عن المصارف التي استفادت من هندسات مالية دفع مصرف لبنان كلفتها 115 تريليون ليرة. أما شركة “فوري” فحصلت على 333 مليون دولار، من بينها 111 مليون دولار تشكّ شركة ألفاريز أنها أموال غير شرعية.

وكذلك، تضمَّن التقرير تلقّي حسابات تابعة لسلامة في سويسرا، أرصدة مالية بالعملات الأجنبية بلغت قيمتها 98.8 مليون دولار خلال فترة 6 سنوات، بمتوسّط تحويل يبلغ 16.5 مليون دولار سنوياً.

ولإخفاء هذا التفريط بالأموال، تلاعب سلامة بالوثائق ليظهر أن مصرف لبنان مؤسسة رابحة. وأرسل لوزارة المال 40 مليون دولار بوصفها أرباحاً محققة. وهذه وسواها قادت إلى “التدهور السريع للوضع المالي لمصرف لبنان” على حد قول الشركة .

كتم المعلومات للتضليل

وعلى الرغم مما حفل به تقرير الشركة من وقائع على تبذير الاموال العمومية فهي عانت أثناء عملها من عدم تجاوب سلامة وموظفي مصرف لبنان مع طلبات الحصول على المستندات المطلوبة. إذ “لم يتم تزويدنا بأي وثائق من شأنها أن تدعم الواجبات التي يؤديها المفوض الحكومي. لقد تم تزويدنا بتقريرين فقط يصفان حالة علاقاته اليومية مع مصرف لبنان”. ولاحظت أن المجلس المركزي لمصرف لبنان ومفوّض الحكومة لديه، لم يقوموا بأدوارهم المطلوبة، خصوصاً لناحية الرقابة على قرارات وسياسات سلامة. ويصف التقرير “قرارات المجلس المركزي حول الهندسات المالية بأنها لم تكن عقلانية أو مبنية على الواقع الاقتصادي، وحساب الفوائد والأكلاف والمخاطر والبدائل”. حتى أن المجلس اكتفى بـ “تفسير سريع من الحاكم يتجنّب فيه الحديث عن المخاطر”. ومن التحديات التي واجهتها الشركة في تدقيقها الجنائي “عدم إجراء مقابلات مع موظفي مصرف لبنان”. ومع أنها أرسلت “طلبات وأسئلة مكتوبة إلى موظفي المصرف، إلا أنه “لم يتم تقديم أي معلومات لنا”. وبغياب المعلومات تفترض الشركة أن “هذه المعلومات غير موجودة. ما لم يتم تحديد خلاف ذلك من قِبَل مصرف لبنان”. وبالمقابل، أشارت الشركة إلى أنه “كان هناك تجاوب في تقديم المعلومات والمستندات التي تبيِّن أن مصرف لبنان يلتزم بالقوانين”.

وتتحدث الشركة عن التحويلات المالية المشكوك بها، والمبالغ المضخَّمة والتلاعب بالأرقام لتبيان حالة الربح بدل الخسارة، وإخفاء المستندات المطلوبة لتسهيل عملية التدقيق الجنائي. كل هذه  ليست إلا مقدّمة لعدم “اتخاذ أي خطوة لتعزيز ترتيبات الحوكمة في مصرف لبنان”. وعليه، فقد أوصت بـ”الحفاظ على الرقابة على مصرف لبنان من قِبَل الهيئات الخارجية، وإجراء إشراف وتدقيق برلماني أكبر وإجراء مراجعة منهجية مستقلة بتكليف من وزارة المالية. وإيجاد آلية مساءَلة قوية تطلب من البنك المركزي تقديم حساب للقرارات المتّخذة أثناء تنفيذ مسؤولياته”.

وتستنتج الشركة إن ما يؤكد على ضرورة  وجود سلطة رقابية حقيقية ونية صريحة بالإصلاح، غير متوافِّرة في الوقت الحالي. إذ إن الجهات المفترض بها مراقبة سياسات الحاكم، كانت وما زالت متواطئة معه. وتؤكد الشركة أن تقريرها أوّلي. ونتيجة لذلك، قد تكون الأرقام الواردة هنا عرضة للتغيير بناءً على استلام وتحليل البيانات أو النتائج الإضافية. وتظل بعض خطوط الاستفسار مفتوحة”.

هندسات الساسة والمصرفيين

ما إن وقعت “البقرة ” حتى روَّج معظم الساسة والمصرفيين أن حدوث الانهيار مرده انتفاضة شباط 2019، وأن المتظاهرين هم الذين تسببوا في حصوله، بمعنى أن المعترضين على سياسات السلطتين السياسية والمالية هم سبب العلة. بالطبع جرى تجاهل الدور الذي لعبه الاخطبوط السياسي المالي وقاد إلى النتائج المعروفة. ومن أبرز ما قيل إن الشعب اللبناني برمته تسبب في استنزاف اموال المودعين من خلال ما دفعته الدولة على الكهرباء، وتثبيت سعر صرف الليرة، وتمويل الاستيراد، و سلسلة الرتب والرواتب وتضخم أجور العاملين في القطاع العام، فضلاً عن البذخ الذي مارسه اللبنانيون في المنتجعات السياحية الخارجية وغيرها. وكان الهدف من نشر هذه الاقوال تجاهل العامل الأساسي والفعلي لكل ما جرى، أي المنحى “البونزي سكيم” كما سمّاه البنك الدولي، مشيراً إلى وجود مخطط نهب احتيالي ومتعمّد. هذا المخطط، هو ما حددت معالمه ألاساسيّة آلفاريز آند مرسال في تقريرها، وتحدث عنه البنك وصندوق النقد الدولي والعديد من ممثلي الأمم المتحدة وصناديقها ومؤسساتها وعشرات الخبراء من الداخل والخارج.

يتبيّن من خلال التدقيق الجنائي لشركة الفاريز أن صافي احتياطات العملات الأجنبيّة لدى مصرف لبنان، أي الفارق بين إلتزاماته وموجوداته، سجّل فائضًا بحلول نهاية العام 2015، وبقيمة ناهزت الـ7.2 مليار دولار أميركي. أي أنه كان بإمكانه تسديد جميع أموال المصارف ، وأن يحتفظ باحتياطات بقيمة تتجاوز السبعة مليارات دولار.

لكن ما حدث هو العكس تماما، وفي غضون فترة لا تزيد عن خمس سنوات ، انتقل صافي الاحتياطات لتسجل عجزاً بقيمة 50.7 مليار دولار، بحلول العام 2020، ما يمثّل تحديدًا كتلة الخسائر التي تنامت لاحقًا لتلامس الـ 60 مليار دولار بحلول العام 2022، بحسب خطّة الحكومة. فماذا حدث خلال السنوات الخمس المذكورة؟ ومن الذي استفاد من تراكم الخسائر التي بددت أموال المصارف المودعة في مصرف لبنان؟

يشير تقرير التدقيق الجنائي جواباً على ذلك إلى أنّ تراكم الخسائر التصاعدي جاء نتيجة تطوّرين ترافقا معاً: أولهما، هو تنامي إلتزامات مصرف لبنان للمصارف بنسبة 119%، بعدما قامت المصارف بإيداع أموالها لدى المصرف المركزي، طمعًا بالأرباح الفاحشة التي كان يقدّمها في سياق الهندسات الماليّة. وثانيهما، تناقص موجودات المصرف المركزي بالعملة الأجنبيّة خلال الفترة نفسها، بنسبة 18%. بمعنى أوضح، وخلال خمس سنوات فقط، كانت المصارف تضع أموال المودعين لدى رياض سلامة، وهو كان يبددها.

والسؤال هو كيف جرى تبديد كل هذه الأموال؟ يجيب التقرير نفسه أنّ كل هذه التطوّرات تزامنت مع الهندسات الماليّة، التي رتّبت على المصرف المركزي ما يقدربحوالي الـ115  ترليون ليرة. أرباح الهندسات الضخمة تم دفعها للمصارف وكبار المودعين بالليرة طبعاً، إلا أنّ ضخها في السوق كان يسمح لأصحاب المصارف وكبار المودعين بتحويلها إلى الدولار بالسعر الرسمي، ثم إلى الخارج، ما كان يستنزف الاحتياطات الموجودة لدى المصرف المركزي، تحت ستار “تثبيت سعر الصرف”. هذا تحديدًا ما قصده البنك الدولي والرئيس الفرنسي وأمين عام الأمم المتحدة، الذين أجمعوا على وصف ما جرى بالبونزي سكيم، أي العمليّة الاحتياليّة.

شركاء في الجريمة ومتواطئون

تجزم الشركة أن التدقيق الجنائي كي يتكامل لا بد من توفير معطيات ومستندات اضافية، لكن الأبرز في ما ورد فيه هو أنه يتجاوز مصرف لبنان وحاكمه والمجلس المركزي ومفوض الحكومة ليطال السطتين التشريعية والتنفيذية.  وتبدأ هذه من وزارة المالية التي لم تلعب أي دور من خلال المفوض في لجم ممارسات سلامة. وينسحب الأمر على السلطة التنفيذية فرادى ومجتمعين، إذ لم تبادر هذه السلطة يوماً إلى وضع ما يجري في المصرف المركزي تحت مجهر التدقيق والمساءلة، ما أتاح متابعة الممارسات عقوداً متتالية. أي أنها قبل السنوات الخمس التي تناولها التقرير وهي سنوات 2015 – 2020 لم تختلف ممارسات سلامة والحاكمية عما تابعته حتى  الرمق الأخير قبل نهاية الولاية نهاية الشهر الماضي. أيضاً يطال هذا المنحى المجلس النيابي بوصفه سلطة رقابية على أعمال الحكومة، ويستطيع من خلال موقعه هذا فتح أي ملف وتشكيل لجنة تحقيق في مدى قانونيته. وهو الآخر لم يفعل ذلك على امتداد عهود.  الأنكى من ذلك أنه أقر موازنات الدولة على العموم من دون أن تكون مرفقة بقطع الحساب عن العام السابق. ما قاد إلى تكريس فردية قرارات سلامة وصولاً إلى الانهيار الذي بلغه. وعليه، يمكن القول إن السلطتين معاً متواطئتان مع سلامة كحاكم مطلق اليد، مقابل ما قدمه لها من مبالغ مالية بعضها اتخذ الطابع الشخصي، وبعضها الطابع العمومي من خلال تدبير متطلبات الموازنة على صعيد تأمين الدعم لأموال الأدوية والقمح والفيول والرواتب والأجور، عبر الاعيب تبين في ما بعد أنها قادت إلى الكارثة العاصفة بالبلاد ومختلف قطاعاتها، ناهيك عن الانهيار في قيمة العملة الذي شارف على الـ 98 % ما قاد إلى ما يشبه المجاعة التي لا يخفف من وطأتها سوى أموال المغتربين التي تسد رمق ذويهم

ما كشقه تقرير التدقيق الجنائي عبارة عن عملية احتيال جزئية موصوفة على حساب المودعين، تواطأت فيها السلطة السياسية والمالية معاً وصولاً إلى النتيجة المعلومة. يشرح  التقرير الجرائم الماليّة التي ارتكبتها شركة فوري التي اختلس من خلالها الحاكم 330 مليون دولار من أموال مصرف لبنان، والتي تحقق بشأنها المحاكم الأوروبيّة، ونحو 111 مليون دولار من العمولات التي تشبه قصّتها حكاية شركة فوري، وصولًا إلى الأموال التي كان يدفعها الحاكم من أموال المصرف لإعلاميين واقتصاديين و”فعاليّات ثقافيّة وسياسيّة” مختلفة، كتبرّعات مجهولة الأهداف. وكل هذا مجرد غيض من فيض عملية نهب اموال الدولة العمومية فيشتى الوزارات والصناديق والمؤسسات العمومية. وكذلك نهب أموال المودعين التي أجمع كبار الاقتصاديين الدوليين أن العالم لم يشهد لها مثيلاً . مع ذلك ما تزال الطبقة السياسة – المالية تتابع نهجها التدميري دون أن أي مراجعة لسلوكها المدمر.

Leave a Comment