مهند الحاج علي*
يتكاثر المرشحون الورثة للانتخابات المقبلة وفي المشهد السياسي، إلى درجة بات يُصعب معها تعدادهم، بل الأجدى تحديد من يقع خارج هذا التعريف. فعلاً، من هُم “اللا ورثة”، أو من لم يرث منصبه في السياسة والترشيح الجدي للانتخابات النيابية؟ بالإمكان عدّ هؤلاء على الأصابع.
اللافت أن الموجة الأخيرة (بالألفية الثانية) من التوريث في السياسة اللبنانية افتتحها النائب الراحل ميشال المر الذي أورث ابنه وزارة الداخلية في ظل عهد وصاية النظام السوري. حينها، نهاية عام 2000، قدم المر ابنه الياس وريثاً للبنانيين، ليس في مجلس النواب، بل كوزير للداخلية. وعندما ووجه ميشال المر بسؤال عن التوريث، أشار الى آل بوش، وقد تزامن انتخاب جورج الإبن حينها، رغم تدرجه في الحزب والسياسة، وبفاصل ثماني سنوات عن والده (ولايتان للرئيس السابق بيل كلينتون).
اليوم، وبعد 22 عاماً، على تلك اللحظة، أطل علينا الوريث الياس المر لإبلاغنا بترشيح نجله ميشال للانتخابات النيابية عن المقعد الأرثوذكسي في دائرة المتن الشمالي. برنامجه الانتخابي، وفقاً لوالده، هو كونه شاباً طامحاً “إلى التغيير ويريد أن يعيش في لبنان”.
ولتجنّب السؤال الذي طُرح على والده عام 2000، رد المر بعدم وجوب “الحديث عن توريث سياسي، لأنه في هذه الحال كنت أنا الذي يترشح. والمواطنون هم من يقررون إذا هذا الشخص قادر على تمثيلهم”، وهذا تماماً ما حصل مع جورج بوش الإبن الذي انتخبه الأميركيون مرتين. مع فارق طبعاً أن آل المر سبقوا عائلة بوش بإدخال جيل ثالث إلى السياسة.
رغم السخافة الظاهرة، تبقى خطوة المر ذات دلالات سياسية مهمة، إذ إنها تؤشر إلى مدى ثقة الطبقة السياسية بقدرتها في الانتخابات المقبلة وغيرها من الاستحقاقات. لا بل بالعكس، لدى الطبقة السياسية الإمكانات المالية الكافية للتوريث، ولو كان بهذه السخافة ودون تقديم أي برنامج سوى الحديث عن بيوت السياسة والخدمات. وهذه الثقة والاعتقاد الراسخ بالنجاح، مصدرهما تحول في الطبيعة السكانية التي طُحنت بإمكاناتها وباتت مكوناتها تقبل بالفُتات للاستمرار والنجاة. غالبية السكان باتت تعيش على بضعة دولارات باليوم، وبالتالي بإمكان السلطة السياسية اليوم التعاطي معها على هذا الأساس، أي كونها كتلة غير صلبة وقابلة للتشكيل والتنكيل والتطويع. لن يُفاوض السكان بهذا الوضع على عقد اجتماعي جديد، بل يبدو أن السلطة وعائلاتها تفرض صنفاً جديداً من السياسة بالعودة الى الاقطاع والفروقات الحادة في الثروة.
ذاك أن العائلة السياسية اليوم، وعلى عكس بقية اللبنانيين، لم تخسر أموالها في المصارف، بل حولتها للخارج بالتعاون مع السلطة المصرفية (العامة والخاصة). هي فوق القانون وليست تحته، ولا محاسبة لها، ولا فرصاً متاحة للانضمام الى هذا المجتمع، لمن لا ينتمي عائلياً (بالمتن مثلاً، آل المر وآل الجميل وهوامشهما). والوراثة اليوم شكل نيء وفاضح من الاقطاع السياسي والاقتصادي، إذ إن واقعنا معدوم الفرص لدرجة أننا لو سافرنا في الزمن وعدنا للبنان بعد 400 عام لوجدنا أغلب العائلات نفسها في عالم السياسة والمال والاحتكارات.
مع هذه الطبقة السياسية وورثتها، يتحول البرلمان اللبناني مع كل انتخابات الى ما يُشبه مجلس اللوردات الإنكليزي، مع توريث يتجاوز الصف الأول (آل جنبلاط وآل ارسلان وآل الحريري وآل المر وآل الجميل ومعوض وفرنجية غيرهم) إلى الثاني والثالث (آل فتفت والبعريني وسعادة وكبارة وحرب وغيرهم الكثير).
وهناك تواطؤ من الأحزاب السياسية المؤدلجة، إن كان مشاركة أو مساعدة على أساس المصلحة. لهذا كان لافتاً حديث النائب المر عن العلاقة العائلية التاريخية مع الطاشناق. حتى ضمن “حزب الله”، هل بإمكاننا حسم عدم لعب نجل الأمين العام لحزب الله دوراً سياسياً مستقبلاً؟ أليس تقديم هاشم صفي الدين، ابن عمة نصر الله، كخليفة محتمل له، نوعاً من التوريث (أفقي في العائلة على الطريقة الملكية العربية، وليس عمودياً؟ وهذا ينسحب على الدور المرتقب للنائب ستريدا جعجع في القوات اللبنانية).
في الاقتصاد، كما في السياسة، تنسج هذه القوى مستقبلنا مجبولاً بالفقر وإدامته من خلال الوراثة بلا حدود. ذاك أن غياب ضريبة كافية على وراثة الممتلكات في لبنان، يشمل البشر من أتباع وناخبين، فهؤلاء أيضاً ينتقلون بين الأجيال كقطع أثاث قديمة تستمر ببعض الصيانة كل أربع سنوات.
*نشرت على موقع المدن الالكتروني في 31 كانون الثاني / يناير 2022
Leave a Comment