“لا يمكن للتفاوتات الاجتماعية أن تقوم إلا على المصلحة العامة”. (إعلان حقوق الإنسان والمواطن” 1789). (ويُقصد بالتفاوتات، عملية تراكم الثروة لدى الأفراد والشرائح الاجتماعية). جاءت تلك العبارة في خطاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشأن عالَم ما بعد كورونا. ربما تحمل عودة ماكرون إلى الثورة الفرنسية ومبادئها، دلالة عن أجواء التبدّل الكبير الذي رافق كورونا، ويُتَوَقَّع أنه سيُغيّر نموذج النظام الرأسمالي الليبرالي السائد. على غير ما توقّع ماركس، استمرت الرأسمالية حتى الآن في تجديد نفسها بعد أزماتها الكبرى، مع تناقضات شتى. وتحت أعين المعزولين في المنازل، حدثت تبدّلات أساسية كبرى، وصار شبه مسلّم به أن ما بعد الوباء ليس كما قبله، بالاحرى أن نظاماً عالمياً تخبّط بصورة سوريالـية في مواجهة وباء، يصعب أن يتابع مساره السابق. صار رائجاً القول أن الشعبوية الغربية المتبنيّة للنيوليبرالية (مع تلوين قومي في أميركا)، انكشفت هشاشة نظمها وطروحاتها. لعل المثال الأبرز تمثل في بوريس جونسون وتفاوضه مع مستثمرين على خصخصة القطاع العام الصحي. ومع كورونا، لم يجد الشعب البريطاني سوى القطاع العام الصحي، وصولاً إلى جونسون نفسه الذي تكون إصابته بكورونا كثيفة الدلالة، في ذلك المعنى. يجري قول شيء مشابه على إيطاليا في لحظة صعود اليمين الشعبوي بقيادة ماتيو سالفيني، ومع قطاع عام صحي يتقلص باستمرار منذ عهد سيلفيو برليسكوني (الملياردير ورئيس الوزراء اليميني والمُتَبَنّي للنيوليبرالية). وإذ لم يجد الشعب الإيطالي سوى قطاعه العام في مواجهة الوباء، جاءت النتائج كوارثية. ويبقى ترامب المثل الأبرز والأشد كثافة في الدلالة على انكشاف الشعبوية النيوليبرالية في لحظة كورونا. ويجب القول أن المقال ليس مؤهلاً لشرح حتى وجهة نظر مجتزئة حيال ذلك الحدث الهائل.
يدٌ لعودة الدولة
جاء أحد التعليقات على خطاب ماكرون، من الاقتصادي الشهير توماس بيكتي، صاحب كتاب “رأس المال في القرن 21” (2013) الذي تصدرته تلك الجملة نفسها، عن أولوية المصلحة العامة وضرورة أن تكون أساس الاستثمار الرأسمالي. ولاحظ بيكيتي أن الدول الغربية الليبرالية عموماً، تبنّت أثناء الوباء إجراءات تعاكس توجهاتها قبله التي تحكّمت فيها النيوليبرالية، بل نسختها “القومية” (ترمب وجونسون وسالفيني…). وختم بيكيتي بأن رأسمالية “الاستثمار الاجتماعي” (بمعنى إعطاء الأولوية للإنسان والمصلحة العامة للمجتمع) سيصعد في التطوّر المقبل للرأسمالية الليبرالية، غرباً وشرقاً.
وتزامنت تصريحات ماكرون وبيكيتي مع تصريح مُدوّ من وزير المال الفرنسي، بأن الدولة ستدعم الشركات، خصوصاً الصغيرة، حتى لو وصل الأمر إلى… التأميم! كم غابت هذه الكلمة، فلم عادت إذاً؟
باختصار مُخِلْ، لم تجد الدول الغربية في لحظة كورونا، إضافة الى “تجميد” القوى العاملة، سوى تولي الدولة أمر الاقتصاد مباشرة. وضخّت الأموال العامة إلى الشركات على هيئة قروض ميسرة ومساعدات، وأموال يفترض أن تذهب مباشرة إلى قوى العمل. شكّل ذلك مساراً معاكساً تماماً للنيوليبرالية، وتضخيماً هائلاً غير متوقع لرأس المال الآتي من القطاع العام (كاد يلامس عودة رأسمالية الدولة)، لم يستثن قطاعاً اقتصادياً فاعلاً، بل وصلت يد رأس مال الدولة حتى المطاعم والمقاهي والحانات.
وفي المقابل، تلاشت الشركات الكبرى، فيما ظهر أن الشركات العابرة للقارات (التي حرفت العولمة باتجاه النيوليبرالية المنفلتة) عاجزة، ولم تستطع بصورة عامة الخروج من إطار الاتكاء على رأس مال الدولة. ومثلاً، أعلنت “فيرجن” أنها تعتمد على الدولة في استمرارها. يبدو الانقلاب مذهلاً في أميركا التي أُجبر اقتصادها على الانتقال من التخفيض الضرائبي الأضخم تاريخياً للثروات الخاصة، إلى البرنامج الأضخم تاريخياً في دخول رأس المال العام إلى الشركات في القطاعات كافة (يقارب مجموعه فعلياً 3 تريليون دولار). تذكيراً، منذ النيوليبرالية الريغانية، تقلّص تدخل الدولة في الاقتصاد الأميركي، وتدنت أملاكها الى الصفر. ولم يحارب ترمب “طاحونة هواء” بمثل ما فعل مع برنامج أوباما للرعاية الصحية، لكن كورونا دفعت ترمب إلى رعاية أحد أضخم الإنفاقات على الرعاية الصحية.
لبنان والعقد الاجتماعي الجديد
من ناحية اخرى، صعدت القوى العاملة بقوة في الاقتصاد. وتساوت أهمية “الأعمال الأساسية” (من الطواقم الصحية إلى عمال النظافة والـ”ديلفري”)، مع الأعمال المتقدمة في التكنولوجيا كالتعليم عن بُعد، والترفيه الافتراضي. ماهي الإملاءات البعيدة المدى لكل تلك التبدلات الزلزالية؟ سؤال معقد.
ثمة من يرى أن المسار الحاصل مع كورونا، سيفرض تجديداً جذرياً، من نوع عقد إجتماعي جديد، ربما يطوّر “العقد الجديد” في زمن فرانكلين روزفلت، الذي جاء بعد الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية. وبين روزفلت وريغان (تسمّى أوروبيّاً “العقود الثلاثة المجيدة)، صعدت دولة الرعاية الاجتماعية (الضمان الاجتماعي) في الغرب، بل قلّدتها تجارب في العالم الثالث. وراجت في تلك العقود مقولات دولة الضمان الاجتماعي الي نظّرها الاقتصادي البريطاني ماينارد كينز التي رأت في تلك الدولة حلاً لما تراكم مع الكساد الكبير وما خلفته الحرب العالمية الثانية. بديهي القول أن التحقيق الكامل للنظرية الكينزية (توظيف كامل قوى العمل تحت إشراف الدولة) لم يحصل، والأرجح أنه غير وارد، لكن عودة الدولة ودخول رأس مالها في الاقتصاد، بات حاصلاً. هل في أفق ما بعد كورونا، تجديد للعقد الاجتماعي (بكلمات روسو) مع “نيو- كينزية” للقرن 21؟
باختصار، إذا تُرجِم ذلك لبنانياً، لجاء أشبه بتجديد دولة المؤسّسات الشهابية (ترافقت مع دولة الرعاية والكينزية)، بصيغة تلائم لبنان من الـ”نيو- كينزية”. يعني ذلك صندوقاً سياديا لا يضم أملاك الدولة ومرافقها (كي لا يكون سلماً ملتوياً لخصخصتها بصورة منفلتة)، بل يركز على استثماراتها، وتستند إليه شبكة أمان اجتماعي. وكذلك استعادة الأموال المنهوبة (مطلب “الحراك”)، وإيجاد صيغة لإعادة صياغة الاستثمارات “القانونية” غير المنطقية كالأملاك البحرية. وكذلك تتولى الدولة عقود النفط مباشرة، وتستعيد قطاع الاتصالات، وتعزّز القطاع المصرفي، مع محاسبة منطقية عن الأخطاء، والإصرار على حماية الودائع. ولا خوف من “صندوق النقد الدولي” لأن التبدّل العالمي غيَّرَهُ، وبات ممكناً التفاوض على قروضه الضرورية، مع حماية العملة الوطنية بوصفها أساساً في الاقتصاد والمجتمع.
[author title=”احمد مغربي” image=”http://”]كاتب لبناني[/author]