*عمر قدور
لم يحدث في التاريخ المعاصر لبلدان الجمهوريات العربية أن صار وجود هذه البلدان نفسه موضع شك، فالمستقبل كما تراه نسبة عظمى من شعوبها إما قاتم أو مجهول. لم يعد هناك أمل، كما كان من قبل، يتغذّى من حلم التغيير السياسي الذي يضمن انتقالاً في أحوال هذه البلدان، فمحاولة التغيير في بعضها باءت بالفشل، بينما انكشف التغيير في البعض الآخر عن الفشل والخيبة، أو عن استعادة النظام القديم أسوأ ما فيه وكأنه يعاقب الشعوب التي ثارت بدل الدخول معها في تسويات ومصالحات.
بدءاً من الشرق، ورغم الهدوء الذي على السطح، لا نستطيع الاكتفاء بوصف العراق بأنه بلد تابع لإيران. هي تبعية قوى مسيطرة ضمن مكوِّن أساسي، وهذه الميليشيات هي قوى حرب أهلية متى أصبح النفوذ الإيراني مهدَّداً بالزوال. في المحصلة، هناك رضوخ لميليشيات ومرجعيات طائفية، من دون تنزيه خصومها عن الطائفية أيضاً، والحرب الأهلية مكبوتة مؤقتاً بحكم الاختلال الشديد في ميزان القوى ليس إلا. في الجوار، تكفي خريطة النفوذ الأجنبي على كافة الأراضي السورية لبيان ما وصل إليه الكيان السوري من تمزّق، والإصرار الدولي متعدد الأطراف على “وحدة وسلامة سوريا” يظهر شبيهاً بسياسة الإنكار التي يلجأ إليها السوريون أنفسهم بدل مواجهة واقعهم المزري.
بالمقارنة، يبدو اللبنانيون مدمنين على سؤال تأسيس وإعادة تأسيس الكيان اللبناني، وليسوا أقلّ إدماناً على الحرب الأهلية الساخنة أو الباردة. ربما كان هذا الإدمان ترياقاً للتعايش مع نكبات كبرى، آخرها انفجار المرفأ وانهيار المصارف، إلا أن المرونة في التعايش مع النكبات لا تشير إلى الشروع في معالجة أسبابها. في وصف مصر، سيكتب صديق افتراضي مصري ما معناه أن المصريين، سعياً منهم إلى تحاشي المصير السوري، لاقوا مصير لبنان. المقصود هو الانهيار الاقتصادي الذي يُنذر لأول مرة بعواقب لم تشهدها مصر من قبل، ويجب ألا يغيب عن الأذهان كون مصر هي البلد السبّاق في المنطقة “بوصفه دولة” مع النهضة التي بدأت في عصر محمد علي باشا.
اللوحة قاتمة في جنوب مصر وغربها، فتقسيم السودان لم يأتِ بالحل لشماله الذي يشهد حرباً أهلية لا تتغذّى على الاختلاف الديني أو الإثني كما حدث سابقاً، أما في ليبيا فأغلب الظن أن المعارك متوقّفة لأن اللاعبين الخارجيين منشغلون بساحات أخرى حالياً، وهو على الأرجح ما جعل ساحات الحرب السورية باردة أيضاً. في تونس، لا يُعرف ما الذي يمور تحت السكون الحالي، لكن التدرّج من أتاتوركية بورقيبة إلى قذّافية قيس سعيد ينبئ بالأسوأ. البلد الرائد في إشعال ثورات الربيع العربي ليس على الإطلاق بعافيةٍ سياسية أو اقتصادية، وثمة قنبلة موقوتة لا يُعرف متى تنفجر، بينما تشير كافة الدلائل إلى أن الانفجار الجديد لن يكون محمولاً على الآمال التي رافقت الثورة الفائتة. أما الجوار الجزائري فقد خرج تعثّره إلى العلن منذ أربعة عقود ونصف، وهو ينوء بلا أفق للخلاص تحت ثلاثية العسكر والإسلاميين والمسألة الأمازيغية.
يتوقف هذا التذكير السريع عند حدود المملكة المغربية، مثلما كان ابتدأ من حدود منطقة الخليج وبلدانها المحكومة بممالك وإمارات، يحدّها من طرف آخر اليمن الذي لا يشذّ عن بقية بلدان الجمهوريات. في المنتصف الجغرافي كان يمكن الجزم بنجاة المملكة الأردنية لولا أنها محاطة ببلدان مفخخة، فضلاً عن تأثر الأردن الشديد بمآلات الموضوع الفلسطيني سلباً أو إيجاباً. في الخلاصة، بلدان الجمهوريات العربية مأزومة جميعاً، بينما يسود الاستقرار في بلدان الأنظمة الملكية.
على سبيل التأكيد، هذا ليس مديحاً للأنظمة الملكية. لكننا عندما نكون إزاء ظاهرة عامة، بل تخلو من استثناءات، فمن المفترض أن نمعن النظر فيها جيداً. وتحاشياً للتبسيط، لا تصلح هذه المقارنة للقول أن النظام الملكي هو الحل في بلدان الجمهوريات، فقد شهدنا إخفاقاً في جعل الجمهوريات وراثية عائلية في العراق واليمن ومصر وليبيا وتونس، و”النجاح” الوحيد في التوريث يستحق أن يوضع بين قوسين، لأن اعتبار بقاء بشار الأسد في السلطة نجاحاً سيكون بمثابة إلغاء الفشل من القاموس.
لقد روّج حكّام الجمهوريات لأنفسهم كتقدميين بالمقارنة مع “رجعية” الأنظمة الملكية، وهذه الفكرة وجدت لها أنصاراً كثيرين في بلدانهم، ويصعب القول أن آثارها قد اندثرت نهائياً. وما يضمره التقسيم هو ضرورة تحوّل بلدان الملَكيات إلى جمهوريات، وتخيُّل هذا السيناريو سيكون مثيراً للسخرية على خلفية مآل الجمهوريات، إلا إذا اعتبرنا واقعها الكارثي الحالي تقدّماً في مسار تاريخي حتمي!
ضمن الخطاب التقدمي ذاته، راجت فكرة ثراء الملكيات لتفسير تردّي أحوال الجمهوريات، كي لا نقول تطور أحوال الملكيات. وهذا التفسير “المغري بصلاحيته حتى اليوم” تنقضه تجربة ثلاث جمهوريات ثرية بالنفط، هي الجزائر وليبيا والعراق، وتنقضه من جانب انعدام النفط وأمواله تجربتا المملكة المغربية والأردنية. وفي الأصل لم تكن الجمهوريات غير النفطية مصنّفة ضمن البلدان الفقيرة، وكان البعض منها يتباهى بتعدد موارد الدخل، وفي مقدمها الموارد البشرية، ما يعني أنها تعرّضت لسوء الإدارة والإفقار.
إن نظرة سريعة إلى القوى الفاعلة حالياً في المنطقة، بصرف النظر عن الاتفاق أو الاختلاف معها، توضّح الغياب المطلق لحكام وبلدان الجمهوريات العربية، مع بروز لأدوار العديد من الملكيات في ملفات إقليمية أو تتجاوز الإقليم. أي أن تلك البلدان فوق استقرارها في الداخل تثبت حضورها كفاعل سياسي في الخارج، مع التنويه بأن فاعليتها السياسية الخارجية تنطوي على قبول بها من قوى دولية متضاربة المصالح. ولعل ذلك يدحض نظرية المؤامرة الخارجية التي دأب حكام الجمهوريات على التلويح بوجودها، إلا إذا كان سدنة المؤامرات مغرمين بالأنظمة الملكية.
والحق أن نظرية المؤامرة الخارجية في بلدان الجمهوريات ليست حكراً على الحكّام، بل استُخدمت وتُستخدم لتبرير فشل خصومهم أيضاً. وثمة مثال قديم شهير على توزّع العقلية نفسها بين الحاكم والمحكوم، فنظرية المؤامرة كانت في خلفية ازدياد شعبية عبدالناصر مع كل فشل؛ فهو “العروبي” فشل في امتحان الوحدة مع سوريا رغم أن السوريين قدّموها له على طبق من ذهب، ودفع ثمناً باهظاً بسبب تدخلّه في اليمن، وصولاً إلى هزيمة حزيران 1967.
ومن المعلوم أن السلطات التي حملت شعار التقدّم هي عسكرية، أو عمادها العسكر، في كافة بلدان الجمهوريات. والعسكر ينظرون بصدق إلى أنفسهم كنتاج حداثي “تقدمي”، خاصة مع إضافة أيديولوجيات تعود إلى حداثة الغرب ما قبل الحرب العالمية الثانية؛ القومية في الدرجة الأولى، والقومية الاشتراكية أيضاً. وفي معظم هذه البلدان أتت المنافسة من الإسلام السياسي، وليس جديداً القول أنه تجربة تنظيمية حداثية أيضاً لا كما يتصوّره البعض أو يصوّره للأخرين بوصفه ابن الماضي السحيق. ورغم فشل الطرفين لم نشهد مراجعة عميقة وواسعة النطاق تحاسبهما، بل كثيراً ما أُخذ فشل طرف منهما كدليل على أحقيّة الطرف الآخر، وهذا يحدث حتى الآن.
في كل الأحوال، لا تجيب ثنائية العسكر والإسلام السياسي بمفردها على المصير الذي وصلت إليه بلدان الجمهوريات، والعلّة بالطبع ليست في جينات العروبة. وأن نكون إزاء ظاهرة بهذا الاتساع والتعقيد فذلك يتطلب عدم الركون إلى إجابات مبسّطة، أو إلى إجابة يُظَنّ أنها جامعة مانعة. ربما، كاستهلال للتفكير، يُستحسن عدم الوقوع في خطأ التقدميين الذين تلطّوا بزعم الحداثة وراء الأفكار التي تخلّت عنها أوروبا بعدما دفعت ثمنها غالياً بالحرب العالمية الثانية.
*نشرت في المدن الالكترونية يوم الثلاثاء 2024/03/26
Leave a Comment