*برهان غليون
أثار كتاب “سؤال المصير … قرنان من صراع العرب من أجل السيادة والحرية” (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2023)، لكاتب هذه المقالة، ردود أفعال وفتح نقاشات كثيرة طرحت مسائل إضافية مهمة لم يكن من الممكن للكتاب أن يتناولها بالتفصيل، ومنها ما أشار إليه ياسين الحاج صالح في مراجعته للكتاب في مقالين نشرا في صحيفة القدس العربي (12 و26/ 7/ 2023) وما ذكره أصدقاء آخرون في مقالات أخرى، وهذا هو بالضبط الهدف من تحريره. وحتى يأخذ هذا النقاش المطلوب والمنشود حقّه رأيت من المناسب، قبل الخوض في هذه المسائل، توضيح الإشكالية الكبرى التي طرحها والغاية التي أراد الوصول إليها.
كما يبدو لي اليوم، ختمت الثورات العربية (2011) دورة كاملة من تاريخ العرب الحديث، سيطرت عليها إشكالية التقدّم والحداثة، وطغت على تفكير مثقّفيها مفاهيم وطروحات ومناهج تفكير وبحث أصبح من الضروري مراجعتها، ولن يكون من الممكن إعادة النظر في المسائل التفصيلية الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، من دون البحث في هذه الإشكالية والانتقال في الفكر العربي من نقد الأيديولوجيا إلى نقد الواقع، ومن البحث في الماضي عن مفاتيح فهمه إلى دراسة الحاضر، ومن التركيز على الأيديولوجيا والهوية إلى المعرفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية.
من التقدّم إلى الخراب: عندما يصبح الشعب هو المشكلة
المسألة التي تشكل وينبغي أن تشكّل محور النقاش اليوم في الساحة الفكرية العربية هي فهم الحصيلة المأساوية لقرنين من جهود التنمية والاستثمار في مشاريع الحداثة والتقدّم في المجتمعات العربية أو أغلبها، وذلك حتى بالمقارنة مع مجتمعات الجنوب الأفريقية التي عانت من أسوأ أنواع الاستعمار في الحقبة ذاتها، وبعيدا جدا عما حقّقته معظم مجتمعات الجنوب آسيوية أو الأميركية اللاتينية. وذلك سواء تعلق الأمر ببناء اقتصادٍ حديثٍ منتج، أو دولة وطنية حتى لو لم تكن ديمقراطية، أو ثقافة حيّة تقدّم للجماعات إطارا للتواصل والتفاهم والتعاون والسلام، وتعطي لحياة الأفراد والجماعات معنىً وحدّا أدنى من الشعور بالجدوى والاعتبار والسعادة. هذا الإخفاق الخطير والمأساوي بنتائجه الذي وصلت إليه هذه المجتمعات، أو بالأحرى القسم الأكبر منها، وبشكل خاص تلك التي قامت فيها حركات جمهورية وسياسية أكثر راديكالية من أجل التغيير واللحاق بالعصر، بمقدار ما يثير اليوم من تخبّط واضطراب وثورات في أكثر من مكان يترك الشعوب في الفراغ، ويغلق في وجهها طريق الأمل، ويدفعها إلى اليأس والقنوط من المستقبل والاستدارة بأذهان أبنائها ومشاعرهم إلى الماضي، علّها تستمد منه بعض المدد الروحي والأيديولوجي الذي يسكن آلامها.
كيف حصل ذلك ولماذا ومن المسؤول؟ هذا هو السؤال الأكبر الذي يطرح علينا نفسه اليوم، ويشكّل، أو ينبغي أن يشكّل محور نقاشاتنا. وهذا موضوع كتاب “سؤال المصير …” وغايته. وليس من الممكن قول أي جديد في مسائل الثورة والديمقراطية والإسلام في تحولاته الراهنة، والدور الذي تلعبه القوى الإسلاموية وبناء الهوية والذاتية، بمعزل عن هذه المسألة الرئيسية وخارج سياقها.
خلال نصف القرن الماضي، طوّر المثقفون، وأعني القادة منهم بالأساس، طروحاتٍ أصبحت في ذهن قاعدتهم الاجتماعية، أي أتباعهم من المثقفين والمتعاملين بالشؤون الأيديولوجية والسياسية، طروحات تحوّلت إلى بديهيات، تفيد بأن المسؤول عن إخفاق مشروع الحداثة الذي استثمرت فيه الشعوب العربية مواردها المادية والمعنوية هو الطبيعة الجامدة والسحرية أو الأسطورية أو الرومانسية للثقافة العربية، والتي تمثلت بشكلٍ خاص بالتراث الديني الذي يسيطر عليها، وما أورثه للفرد العربي من عقل متحجّر وجامد، بل من غياب التفكير العقلاني والتاريخاني، أي المتفاعل مع الأحداث، وجعله يخفق في فهم الحداثة وتمثل قيمها.
وهكذا بنى المثقفون، والمفكرون البارزون منهم، أجندة فكرية لقلب الطاولة على هذه العقلية التراثية اللاعقلانية السائدة عند الجمهور، غايتها تزويد الذهن العربي بمنطق العقل الذي ينقصه، ويحتاج إليه للتفكير السليم والناجع بشؤونه ومستقبله، فصبّوا جهدهم على نقد التراث وإبراز تعارضه مع العقل وحتمية الأخذ بأيديولوجيا جديدة أصبح دعاتها يسمّونها التنويرية نسبة لعصر التنوير الأوروبي في القرن 18 الذي اعتبروا أنه المؤسّس الرئيس للحداثة وقيم العقل والحرية.
ركّز بعضهم على تطهير الفكر التراثي من اللاعقلانية الساكنة فيه، واستعادة ما صلح منه منصّة للوصول إلى العقل الحديث، كما فعل محمد عابد الجابري. واعتقد بعضهم الآخر، وفي مقدمتهم عبد الله العروي، أن القطع الكامل مع التراث شرط استيعاب منطق العقل الحديث، وتمثل قيمه بكل ما فيه من محاسن وعيوب، حتى تستقيم أحوالنا مع باقي مجتمعات العالم. وأنه لا مهرب من الاختيار بين الماهية والوجود، أي بين التراث والحداثة، فإما هذا أو ذاك، ولا يمكن الجمع بينهما.
نجم عن هذه الأجندة الفكرية الجديدة التي خلفت وراءها أجندة الثورات القومية والاشتراكية المجهضة، بعد انتكاساتٍ متراكمةٍ عسكرية وصناعية واجتماعية، أن المشكلة كامنة في الجمهور الشعبي العاجز عن التحرّر من أوهام “الماضي المجيد”، وإن تجاوز عقبته لا تكون إلا بالرهان التاريخي على أمرين: الأول، تكوين نخبة حديثة تتمثل منطق العقل والعلم المرتبط به متحرّرة من ضغوط المجتمع وأوهامه وثقافته، هي وحدها القادرة على انتشاله من انحطاطه الروحي والفكري وخرافاته. الثاني، تعزيز شرعية الدولة وسلطتها بوصفها الأداة الرئيسة للتحديث وإعادة بناء المجتمع وتغيير جلده القديم البالي، وإبداع هوية وطنية جديدة حداثية، بعيدة عن أوهام الجماعة الدينية والعصبيات القبلية أو الطائفية أو المناطقية.
كما تشير إليه الوقائع، وأكّدته انتفاضات الربيع العربي الشعبية، ثم تفريغها من مضمونها بمشاركة النخب المثقفة والاجتماعية الحديثة ذاتها، لم تحقّق هذه الأجندة التحديثية بعد نصف قرن ونيف من تطبيقها أيا من أهدافها. بل إنها أنتجت تماما عكس ما كانت تطمح إليه أو تعتقد أنها تريد تحقيقه، فبدل أن تعمل على تعزيز دور الدولة في الحياة الاجتماعية، وهو لا يحصل إلا بمقدار ما تتحوّل إلى مصدر للحقوق المتساوية وضامن لتطبيقها، أي مصدر التنظيم الذاتي للمجتمعات، تحوّلت إلى قوة قهر مادي وأيديولوجيا خارجية، وظيفتها الرئيسة نزع السيادة عن الفرد والشعب وتبرير انتهاك حقوقهما، والعمل بمثابة وكالة للقوى الكبرى الإقليمية والدولية. وقد أنتجت، في أحسن الأحوال، طغمة حاكمة استبدّت بها واعتبرتها ملكيتها الخاصة، وأصبحت تستخدمها، بما في ذلك الدستور والقانون للسيطرة والقهر والإخضاع لعموم جمهورها. وفي حالات عديدة، تحوّلت النظم السياسية المتماهية معها إلى صاعق لتفجير المجتمعات وإشعال الحروب والنزاعات الأهلية واللعب على الأحقاد والتمايزات الطائفية والقبلية والمناطقية لتحييد الشعوب، والتمكّن من إخضاعها.
وبدل أن تنشئ نخبة تضع مواهبها وتفكيرها في خدمة المجتمع الذي تدّعي إصلاحه وتحديثه دينيا وثقافيا، أنجبت نخبة مارقة ومتمرّدة عليه، ترى حريتها في تقييد حرّياته وسيادتها في خضوعه وتتطلع إلى محاكاة النخب الأوروبية، لتميز نفسها عن العامّة المفتقرة لهوية وذات وإرادة، والمتماهية مع كل ما فاته الزمن، وأصبح من مخلفات الماضي وأشكال انحطاطه الدينية والقبلية والعائلية البالية.
وبدل أن يساعد تطبيق هذه الأجندة على العبور بالجمهور الواسع من الأمية إلى المعرفة العلمية، ومن ثقافة التقليد والاقتداء إلى ثقافة التعبير الحر عن الرأي والتفكير العقلي والاهتمام بالشؤون العامة، دفع به إلى الفراغ الروحي والعاطفي والفكري، كي تتلقفه هيئات دينية مترهّلة، مفصولة عن الواقع، قبل أن تنتزعها منها “نخبة مضادّة” حديثة، جعلت من الإيمان والإرث الديني رصيدها الأبرز في صراعها مع الطغم الحاكمة، وفي تأسيس شرعية لدولة إسلامية متصوّرة بديلة. وليست هذه الدولة المنشودة إلا الوجه الآخر لدولة الحداثة الرثّة القائمة ونظيرها.
هكذا خسرنا معركة الحداثة على جميع مستوياتها: الدولة المنتجة للمواطنة، أي الحريات والحقوق، والنخبة الفكرية المؤثّرة في الرأي العام التي توجّه الممارسة العامة، وتنور الجمهور في خياراته، وتساهم في النقاش حول ما يطرح عليه من مشكلات وتحدّيات، وتساهم، من وراء ذلك، في بلورة عناصر العقد الاجتماعي. صارت دولنا مزارع إقطاعية، ونخبنا شرائح أرستقراطية رثّة تعتقد أنها بدرجاتها العلمية أو علاقتها بالسلطة تؤكّد تميّزها ورقيّها وحداثتها ضد عامة الشعب النكرة التي تستحقّ معاناتها، طالما أنها ترفض التجرّد عن اعتقاداتها الدينية الخرافية وعصبياتها الأهلية، وهي كل ما بقي لها، للاعتقاد أنها لم تخسر انتماءها إلى جنس الإنسانية وعالم المدنية والحضارة. ومجتمع مفكّك ومتنازع منطو على روابطه الموروثة، من العائلة إلى العشيرة إلى الطائفة، لتأمين ما أخفقت في تقديمه الدولة المخطوفة من تكافل وتواصل ومبادئ موجّهة وبعض السكينة وقليل من الشعور بالذاتية والتحصّن وراءها ما أمكن ضد الاعتداءات الخارجية.
وبدل تعميم مبادئ التفكير العقلاني، احتلت ساحة الوعي الجمعي أيديولوجية إسلاموية متمرّدة على رجال الدين وعلى الدولة والنخبة الحديثة معا، تنوّعت أشكالها ونماذجها، لا تختلف، في علاقتها مع الجمهور، عن النخبة المثقفة، إلا في تعزيز الشعور لديه بأن الحلّ ليس في هذه الدنيا وهذه الدولة، وإنما في مقاومتها.
وبدل التقدّم في اتجاه الديمقراطية، أصبحت الوصاية على الجمهور عقيدة رسمية، وصار الصراع بين من يملك الشرعية لفرض هذه الوصاية الموضوع الرئيسي للفكر والممارسة السياسية في مجتمعاتٍ تتراجع باطراد على جميع المستويات الإنتاجية والسياسية والثقافية والأيديولوجية، فلا تقدّم صناعيا أو زراعيا أو تقنيا أو علميا أو سياسيا أو ثقافيا أو إنسانيا، وإنما تجذّر للمأزق التاريخي أو الانسداد المزمن مع الاستعداد الدائم للانفجار…. يتبع حلقة ثانية.
Leave a Comment