راشد فايد*
صعب ان تكتب عن محسن ابراهيم من دون ان يفوتك الكثير عنه، فكيف وقد ابتعدتُ عنه عشرين عاماً امضيتها في الغربة، من دون أن انقطع عن زيارته كلما جئت إلى لبنان، وحين عدت للإستقرار فيه، عرفت انه لم يعد يرحب بالزائرين بعدما قسا عليه الزمن، فأقللت من التردد عليه.
سيكتب غيري عن حنكته السياسية، وشمولية نظرته العامة، وتخطيها لبنان والعرب إلى العالم، وسيكتب آخرون عن علاقاته داخل منظمة العمل الشيوعي، ومع الاحزاب الحليفة، ودوره في “الحركة الوطنية”، ومع القيادات الفلسطينية وابي عمار في طليعتها، وعن تحوله إلى الماركسية. وبعض آخر سيروي ذكريات مشتركة معه، لكن في ما يلي توصيف لما انطبع عنه لدى الناس، وأنا منهم.
هي سنوات السبعينات من القرن الفائت: احزاب تتوالد كالفطر، وبعض قديمها يجدد عصبه الطائفي، فيما جديدها يزداد جذباً للشباب والشابات، ويكاد يقوض الزعامات السياسية التقليدية الشخصانية حتى بات الإنتماء التنظيمي لازمة لا بد منها للتعريف عن شخص من هنا، أو آخر من هناك، لا سيما في الجامعات ومعاهد التعليم والثانويات.
كانت مقاعد الدراسة حاضنة سياسية، وحتى قبل أن تكون تعليمية، وكم تخلفنا عن صفوف الجامعة كي نستكمل نقاشاً سياسياً وفكرياً وحتى تاريخياً. فكثيرون كانوا يأتون إلى الجامعة حاملين زاداً فكرياً وعقائدياً تكون في البيوت أحياناً، وفي الثانويات في أكثر الأحيان، وفي منتديات الأحياء في كل حين، ودائماً كان هناك “مدرب” “مرشد” أو صلة وصل بين الطالب (والعامل) مع القيادة السياسية العليا، وهو من ينقل إليه، وإلى مواكبيه، الخلاصة السياسية المتكونة لديها، وعناوين الكتب المقترحة للتثقيف، أو نسخا منها، ترفع مستوى ثقافته وتقولبه فكرياً مع عقيدة الحزب أو التنظيم، وكان مضمونها موضع نقاش الحلقات المغلقة المنتظمة.
كنت من الذين قاربو أجواء الاحزاب مزوداً بثقافة سياسية متنوعة مكتسبة من مطالعات شخصية في عمر مبكرة، تأتت من اتباع الاب كقدوة، في مرحلة معينة. لم تكن ثقافة منهجية، لكنها كانت متماشية مع السائد العام في البلاد، ومتجاوبة مع انتظارات الشباب، وكان منوعاً قومياً ويسارياً، والأهم غير طائفي (للأسف، خرج من صفوف اليسار وجوه طائفية توزعت على كل الضفاف، وارتدت على ماضيها العلماني المزعوم).
كان العطش إلى الثقافة، تاريخاً وسياسة وأدباً وفناً، يؤرق جيلنا، وكانت منظمة العمل الشيوعي عنواناً لجدية الاحزاب في التركيز على الثقافة السياسية والفكرية للمنتسبين إليها. وكان جمعي بين الدراسة والعمل في 3 مواقع اعلامية في آن واحد همّش تفاعلي اليومي مع الحركة الطالبية.
ويوم انتسبت إلى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية، أيام كانت جامعة، كان طبيعياً، على عادة تلك الايام، أن “اخضع” لاستجلاء هويتي السياسية من كل حزب أو تنظيم له جمهوره، وقيادته الفرعية في الكلية، وكان صادماً لبعض الزملاء، أني لم أكن ناصرياً، وأنا ابن بيروت، وهذه أحد وجوه التنميط السياسي اللبناني، حيث تصبح قرية بكاملها أو حي فيها من هوية سياسية معينة، لمجرد أن عائلة كبرى، في حيز منها، ينتسب كبيرها إلى توجه سياسي بعينه، وعمق من غيابي عن “رادار” الرفاق، أني تابعت دراستي في السنوات المدرسية الثلاث الاخيرة في مدارس ليلية، يعتمدها من يعملون نهاراً أي ينصرفون إلى حياة الرزق فينذر عملهم السياسي والحزبي.
كان اسم محسن ابراهيم، يتردد بين صفوف الشباب، لا سيما “مناضلي” المنظمة نموذجا للمثقف الثوري، صاحب الصلابة السياسية، التي حولته بالتحليل والنقد، من قومي عربي ناصري أعجب به جمال عبد الناصر، وقرّبه، إلى ماركسي، لا يناكف العروبة، وثابت على الحلم بتحرير فلسطين، وربما لذلك لم تشارك منظمة العمل الشيوعي بفعالية بارزة في الوجه الداخلي للحروب اللبنانية تحديدا مع ما سمي “انتفاضة 6 شباط 1984″، فيما كانت من المبادرين إلى مقاومة اسرائيل في سبعينيات القرن الماضي، بدليل جثامين مقاتليها التي استعادتها غداة التحرير سنة 2000، وكانوا مدفونين في تلال الجنوب الحدودية قرب بلدة بنت جبيل.
كانت قلة تعرف أن ابا خالد يتابع دراسة الحقوق، متقدماً عليّ بصفين، وكانت مفاجأة للكثيرين أنه حضر يوماً إلى الكلية، ولم يطأ صفه، لأنه لم يستطع الانفكاك عن زملاء من كل الاتجاهات السياسية، تحلقوا حوله ينصتون إلى تحليلاته السياسية المغمسة بالنكته والمفارقة السياسيتين. وكانت العادة حين “يندلع” نقاش بين اصحاب العقائد المختلفة أن يتغيب كثيرون عن الصفوف، برغم أنهم لا ينتهون إلى توافق في الآراء، لكن لا يحتدون إلى مستوى الاشتباك غير اللفظي.
لكن “فلسطينية” ابو خالد، لم تحل دون مصارحته القيادة الفلسطينية في احتفال في قاعة “سينما بيروت” في ذكرى انطلاقة الجبهة الشعبية عام 1977 (على ما أذكر)، بأهمية استقلالية القرار الوطني اللبناني، عن القرار الفلسطيني، واستقلالية القرارين عن الوصاية العربية. لكن الوقائع حرفت كل ذلك.
كذلك، لم يحل ابتعاده عن المسرح العام دون أن ينفرد بمراجعة نقدية تفنيدية للحرب اللبنانية، سمتها المصارحة مع الناس، ولم يمنعه دوره في قيادة الحركة الوطنية عن الإقرار بالمسؤولية عن سقوط البلاد في كل ألوان الحروب.
حلّت الحرب على لبنان، بينما كان يتقدم نحو تجذر في الممارسة الديموقراطية، تجلت في اضراب طلابي، مطلع السبعينيات، دفاعاً عن تطوير الجامعة اللبنانية وتوحيد مبانيها، أجبر الحكومة على الاقرار بذلك، قبل أن تستقيل عقب اغتيال كوماندوس اسرائيلي 3 من قادة الفلسطينيين في بيروت.
كان محسن ابراهيم يزعج خصومه بتبصره السياسي، ولذعاته التهكمية، حتى يمكن القول إن هؤلاء كانوا مستعدين للسكوت على تحليلاته السياسية، المناقضة لسياساتهم، مهما كانت معادية لهم، مقابل أن يمتنع عن لسعهم بتعليقاته. ويروى أن عبد الحليم خدام نائب رئيس النظام الاسدي الأسبق أوفد اليه يوما من يتمنى عليه أن يكثر من التنظير السياسي، ويقلل من النكات السياسية، لأنها أكثر ايلاما وأبعد أثراً وأبقى زمناً.
بموت محسن ابراهيم، يطوي الزمن صفحة جيل رفع من شأن السياسة، وجعل القضية الفلسطينية هوية، والوعي الوطني والقومي شريكاً فاعلاً في الرؤية إلى العالم والكون.
وبموت محسن ابرهيم، وقد سبقه رفيقه جورج حاوي، نفتقد ذاكرة زاخرة بوقائع الحروب التي دمرت لبنان، والأهم الوعي بدلالات وقائعها، وخفايا أحداثها.
بموت أبي خالد، سيكون المستقبل بلا جزء كبير من الماضي.
بيروت ـ مطلع حزيران 2021
* كاتب صحافي و محلل سياسي
Leave a Comment