محسن إبراهيم

محسن ابراهيم : رجل استثنائي في تاريخ متقلب

صقر أبو فخر *

عاصر محسن ابراهيم مراحل حاسمة من مراحل التاريخ السياسي للمشرق العربي. وقلما تيسر لغير شخصية ريادية ولامعة مثل محسن ابراهيم أن تشهد تلك المراحل بجميع تفاعلاتها وتفصيلاتها، وأن تكون جزءًا منها، ولاعبًا مهمًا في شعاب تحولاتها، فهو شهد مرحلة صعود الفكر القومي العربي، وكان أحد مناضلي الجيل الأول في حركة القوميين العرب، ثم انخرط في تيار الفكر القومي التقدمي مع بزوغ نجم الرئيس جمال عبد الناصر ووعوده التحررية. وبعد هزيمة الخامس من حزيران 1967، كان جزءاً من الوعي الجديد الذي بدأ يعبر عن نفسه بنقد الناصرية والبعث معًا، وتوصل إلى خلاصات فكرية وسياسية جديدة في شأن الماركسية الثورية. وبهذا المعنى كان محسن ابراهيم شوطًا مهمًا في مسيرة اليسار العربي الثوري التي لمع في ميدانها الأممي رجال من طراز كاسترو وغيفارا وهوشي منه وأليندي وغيرهم. ولا تكتمل تجربة محسن إبراهيم من دون الإحاطة، بالدرجة الأولى، بتجربته اللبنانية والفلسطينية التي تمحورت حول كمال جنبلاط والحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، وبالتحديد إلى جانب ياسر عرفات وحركة فتح. وحتى بعد أن غادرت قوات منظمة التحرير الفلسطينية لبنان في سنة 1982، ظل محسن ابراهيم يسعى في نطاق النضال الفلسطيني  والسياسة الفلسطينية في سبيل تحقيق الأهداف المرحلية لمنظمة التحرير. وكانت منظمة العمل الشيوعي من المبادرين، مع الحزب الشيوعي اللبناني والحزب السوري القومي الاجتماعي، إلى إطلاق المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي من خلال “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية”. ومع توقف الحرب الأهلية اللبنانية في عام 1990 كان لا بد من تحويل خبرته العميقة والممتدة إلى أفكار عملية في بناء دولة ما بعد الحرب، فكان مرشدًا سياسياً لكثير من الأقطاب اللبنانيين أمثال وليد جنبلاط و رفيق الحريري، ولعدد من قادة حركة فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية. ولهذا لم يكن مستغربًا، على الإطلاق، أن تُنكّس الأعلام الفلسطينية في يوم رحيله، ويُعلن الحداد العام في جميع الأراضي الفلسطينية؛ فقد كان الفلسطينيون، قادة ومنظمات وهيئات وشعب، يعرفون مَن هو محسن ابراهيم في ميدان القضية الفلسطينية، وأظهروا للعالم مقدار الاحترام والحب والامتنان الذي يختزنونه للراحل الكبير.

*    *    *

كيفما قلّبنا صفحات تلك المراحل العابقة بالنضال والتطلع إلى المستقبل سنعثر، دائمًا، على محسن ابراهيم؛ إسم يحتل مكانة رفيعة وموقعًا لا يُضاهى. وكلما استرجعنا تاريخ الرجال منذ مطالع خمسينيات القرن المنصرم، كان محسن ابراهيم إما إلى جانبهم أو قيدومهم. فمن رفاقه الأوائل جورج حبش وهاني الهندي ووديع حداد وأحمد الخطيب، ثم كمال جنبلاط وجورج حاوي، فضلاً عن جمال عبد الناصر  وياسر عرفات. وكان، منذ شبابه الأول، مسؤولاً عن إصدار نشرة “الثأر” الناطقة بلسان حركة القوميين العرب حتى وقفها في سنة 1958. وكلمة “الثأر” هي عنوان محاضرة ألقاها المفكر القومي علي ناصر الدين في طرابلس في نيسان 1951. فلما أصدرت هيئة مقاومة الصلح مع إسرائل، وهي إحدى واجهات “الشباب القومي العربي”، نشرتها أطلقت عليها  اسم “الثأر”، وتولى صالح شبل الاشراف على تحريرها في البداية، ثم مصطفى بيضون، ثم محسن ابراهيم. ومن حكايات تلك المرحلة التي تدل على التجدد في فكر محسن ابراهيم، وعلى عدم التحجر في الشعارات، أن محسن ابراهيم، وكان عضوًا في المؤتمر التأسيسي للشباب القومي العربي الذي تحول إلى حركة القوميين العرب لاحقاً لم يكن مقتنعًا بكلمة “الثأر”، وهي ثالث كلمة في شعار الحركة (وحدة تحرير ثأر)، وراح يشدد على ضرورة الاستعاضة عنها بكلمة أخرى مثل “تحرير فلسطين” أو “استعادة فلسطين”.  كذلك كان هو الذي اقترح تغيير اسم “الشباب القومي العربي” إلى “حركة القوميين العرب”، وهو ما كان. وفي تلك الفترة ناضل محسن ابراهيم على الصعيد القومي، قريبًا من جمال عبد الناصر، وعلى الصعيد اللبناني لتخليص حركة القوميين العرب من يمينيتها المحلية، إذ إن الحركة آنذاك التحمت بالبرجوازية الاسلامية التي كانت حذرة من البعثيين والشيوعيين، فوجدت في حركة القوميين العرب ضالتها المنشودة. وكانت معارك الإفتاء والأوقاف وحقوق المسلمين على رأس هموم الفرع اللبناني للحركة. وبانتهاء العصر اليميني تساقطت هذه العناصر (جميل كبي على سبيل المثال) واتخذت مواقعها الطبقية في صفوف المؤيدين للزعامات السياسية والطائفية والدينية أمثال صائب سلام والشيخ حسن خالد وغيرهما (راجع: معن زيادة، تقييم حركة القوميين العرب في مراحلها الأولى، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية 1984). وهنا كان لمحسن ابراهيم ورفاقه التقدميين الشأن الكبير في تخليص حركة القوميين العرب في لبنان من يمينيتها، وتحويلها إلى مجرى النضال القومي التقدمي.

*     *     *

   أدت مجلة “الحرية” التي صدر العدد الأول منها في بيروت في 4/1/1960 دورًا مهمًا في بلورة الأفكار الثورية، وكان محسن ابراهيم يشرف عليها مباشرة. وتمكن بألمعيته أن يحوّل مجلة “الحرية” إلى منبر شديد التأثير في الأجيال العربية الشابة، ويعكس، في الوقت نفسه، التحولات الكبرى في الفكر والسياسة في المشرق العربي، خصوصًا في بلاد الشام والعراق. وفي هذا الحقل، لم يتجمد محسن ابراهيم عند أي موروث، ولم يحوّل الأفكار إلى أيقونات مقدسة لا تُمس، بل، على العكس تمامًا، كان أحد أوائل الذين رصدوا بشغف مولد الكفاح الفلسطيني المسلح، وبشّر  به وانخرط في معمعانه. وفي ذكرى رحيله لا أتجاوز الإنصاف البتة إذا قلت إن اسم محسن ابراهيم ما برح يعطّر الوقائع المجللة بالفخار في التاريخ الفلسطيني – اللبناني، وفي النضال المشترك الذي كان الراحل الكبير أحد رموزه الباسقة وأحد قممه الشاهقة.

* كاتب وصحافي عربي مقيم في بيروت، وباحث في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات

Leave a Comment