كتب زكـي طـه
لا شيء يدعو أطراف السلطة المأزومة إلى القلق من حال فراغ الحكم، وتواصل التعطيل وشلل مؤسسات الدولة أو انهيارها. فهي لا تشعر بالخطر على وجودها بالنظر لجهوزيتها واستعدادها لتقاسم البلاد، في ظل تصاعد الانقسامات والفوضى الأهلية المتوالية فصولاً، بالتوازي مع الانهيار العام الكارثي بكل المقاييس.
كذلك لا يخيفها عجز وتفكك مؤسسات الدولة العامة والمركزية، سواء الأمنية منها أو الخدماتية. لأن ميليشياتها الكامنة والمعلنة والبدائل المافياوية التابعة لها أو المرعية منها، جاهزة لتولي مسؤوليات ومهام سلطات الأمر الواقع. ولذلك فإن تجاهلها التهديد الكياني المُحدق، لا يدعو للاستغراب، لأنه نتاج خياراتها المدمرة ومغامراتها الانتحارية للهيمنة وصراعات كل منها للاستئثار بالسلطة، وتنازع مواقع النفوذ والمغانم. وامام الأولوية المطلقة لوجودها وشبكات مصالحها، فإن الضغوط الخارجية والتهديدات بفرض المزيد من العقوبات وتصعيد الحصار وشروط الدعم، تبقى محدودة الأثر لأنها محكومة لمصالح اصحابها أولاً وقبل أي شيء آخر.
ولذلك، تتابع المنظومة الحاكمة أداءها بشكل يثير دهشة الخارج، الذي لا يستطيع الحلول مكانها وتنفيذ المطلوب منها كي يتمكن من مساعدتها على انقاذ البلد.أما مصدر اطمئنانها الأهم فيتمثل بعدم وجود بدائل وطنية لها، قادرة على ممارسة الضعوط اللازمة التي تجبرها على إعادة النظر بأدائها وخياراتها، أو التنافس معها على السلطة.
وهنا بالضبط تكمن مسؤولية الذين يمعنون في الهروب إلى الأمام، و حصر المسؤولية عمّا أصاب البلد، بمنظومة الحكم والمصارف، أو إحالتها على الخارج أو كليهما معاً. ولا يختلف عنهم الذين ينتظرون ما يمكن أن يأتي به الخارج من تسويات مؤقتة تضمن مصالحه وتجدد مسيرة آلام اللبنانيين.
و في هذا السياق تقع مأساة الغالبية الساحقة من اللبنانيين، فئات وكتل اجتماعية واسعة متضررة واصحاب مصالح مهددة بالخراب، وشباب باحث عن مستقبله، بعدما ملأت انتفاضتهم الساحات والشوارع احتجاجاً على ما حلّ بواقعهم وطموحاتهم، ومعهم كل الباحثين عن التغيير والحالمين به، ساحات 17 تشرين الاول 2019. تلك الانتفاضة الشعبية المجيدة، التي لم تزل تجرجر اذيال خيباتها جرَّاء معضلة التفكك، وفوضى الأهداف والشعارات التي استعارتها من الارشيف، أو اسقطتها عليها القوى الحزبية التي رأت في التحاقها بالساحات علاجاً لأزماتها وهامشيتها، فيما المجموعات التي تشكلت من رحم الانتفاضة لم تكن أفضل حالاً من سواها.
لقد وقع الجميع تقريباً في فخ استسهال التغيير اعتقاداً منهم بسرعة سقوط المنظومة الحاكمة ونهاية نظامها، وحل التنافس بينهم استعداداً وتحضيراً لوهم استلام السلطة، وانتظار استسلام قواها وتسليمهم مفاتيح البلاد ومغادرة المسرح. والاستسهال والأوهام هما نتاج القراءات القاصرة لإشكاليات هوية الكيان ودوره منذ تأسيسه، ومعهما صيغة نظامه السياسي القائم على المحاصصة الطائفية، ومصادر قوته وحدود أزماته. علماً أن التجارب الملموسة قد اثبتت أن عجز النظام عن تلبية حاجات وطموحات اللبنانيين لا يعني نهايته. وأن احتدام مأزق قواه وتعثر مشاريعها وخياراتها وانفجار صراعاتها لا يعني مطلقاً سقوطها واستسلامها. وهذا ما أكدته ردودها ومبادراتها من مواقعها المختلفة، وهجوماتها المعاكسة على ساحات الانتفاضة وجموعها بشتى الوسائل المتاحة لها، مستظلة بتبادل التهم والتنصل من المسؤولية وادِّعاء البراءة، شاهرة سيف الطائفية والاحتراب، سلاحاً لحماية وجودها ومواقعها وتجديد هيمنتها.
ولذلك لا يمكن اختزال أسباب اختلال التوازن في المواجهة مع السلطة، بما تمتلكه أطرافها من قوى وامكانات ومقدرات أكثرها عائد للدولة ومؤسساتها. وذلك لأن الانتفاضة العفوية لم تكن جاهزة ومؤهلة للمواجهة العسيرة، وذلك بالنظراً لما رافق انفجارها من معضلات الفوضى والتشرذم، واقتصار أسلحتها على التواجد في الساحات وسط حماس المشاركين، وأصوات المحتجين والمتضررين الذين استظلوا علم البلاد ونشيدها الوطني، واستعاروا ما تيسّر من ارشيف الشعارت والهتافات.
وفي مقابل محاصرة النتائج الايجابية للانتفاضة، فإن المواجهة مع السلطة فاقمت معضلاتها، جرّاء اصرار غالبية قوى ومجموعات الانتفاضة على تجاهل احكام اختلال موازين القوى، وإدمان المرواحة والهروب من تقييم تجربتها، ورفض إعادة النظر بقراءتها للأزمة مدخلاً لترصيد حسابات القوى والإمكانات والبحث في الممكن والمجدي، بديلاً عن التحليق في آفاق المخيّلات وتحديد أهدافها وبرامجها، بعيداً عن الواقع الصعب والمؤلم حيث هي أولويات اللبنانيين الذين تدَّعي النطق باسمهم، وترك أطراف المنظومة الحاكمة تتمادى في أدائها والتسبب بالمزيد من الكوارث.
ورغم الضمور وإنكفاء اللبنانيين المتضررين ويأسهم وفراغ الساحات، فإن التنافس على ادِّعاء النطق باسم الانتفاضة لم يتوقف، ومعه استمرت فوضى التحركات العشوائية، التي لا يستجيب لها سوى اصحابها، والتي تكاد وظيفتها تقتصر على تأكيد حضورهم الاعلامي باسم الانتفاضة، الأمر الذي لا يزعج اطراف السلطة.
وفي امتداد هذا الوضع يتصاعد مأزق تلك القوى والمجموعات، المتعددة الاتجاهات والمتنوعة الولاءات، وما ترطن به من خطب تزيد طين الأزمة بلّةً. وبين لحس مبرد السلطة والدوران على الذات، هناك من يرفع راية السيادة ويحصر مشكلة البلد بحزب الله وسلاحه، ما يبقيه أسير موقع وخطاب طائفي مستعار، وإلى جانبهم من يبحث عن حياد مستحيل وتدويل قاتل وسط انقسامات الداخل وصراعات الخارج. وفي موازاتهم من يدمن شعار إعادة تكوين السلطة ويطالب بانتخابات مبكرة، متوهماً الفوز بها، ومستسهلاً موافقة فريق السطة عليها. ولا يختلف عنهما من يُعلي راية شعارات مكافحة الفساد واستقلالية القضاء واستعادة الأموال المنهوبة و..، أو الذين يطالبون بحكومة انتقالية وصلاحيات استثنائية، ظناً منهم إن تكرار الشعارات يجعلها إنجازاً محققاً. إما المتحدرون من سلالات زعامات غابرة، والحالمين باستعادة ما كان لآبائهم وأجدادهم من أدوار، فتراهم مشغولين بتجميع السيّر الذاتية للباحثين عن أدوار بأي ثمن، وتحديد مواعيد تشكيل هيئات قيادة الثورة وحكوماتها ومجالسها ومنافسة المتقاعدين أو مشاركتهم. بينما الأحزاب والتنظيمات المتحدرة من تجارب سابقة كان لها سياقها، لا تزال ترفض مراجعتها، وتبديل تسميات تشكيلاتها المتناسلة من دائرة ترسيمات الانقسام الطبقي والأهلي الموروثة. وحيث أن البعض يُصرّ على التميّز بإدائه الفئوي وبنهجه المتفرد، فإن الاستعلاء على اللبنانيين بدعاوى النضال والتظاهر من أجلهم، يساهم في تعزيز هامشيته، التي يفاقمها استسهاله توزيع شهادات الوطنية والخيانة على الآخرين، استرضاءً لمن يستظل راية المقاومة غطاءً لهيمنته وخياراته ودوره في حماية منظومة السلطة من موقع الشراكة معها ورفض المسِّ بأي من مكوناتها وتصنيفها خطاً أحمر.
وفي سياق المأزق العام للانتفاضة حيث يتحمل الجميع، ونحن منهم، أقساطهم من المسؤولية عن أوضاعها وأزماتها، وعما آلت إليه أحوال البلد، فإنه لا يمكن تجاهل أدوار بعض المجموعات، التي تساهم في إشاعة الفوضى وقطع الطرقات، ومنها ما يدور في فلك قوى السلطة وأجهزتها، ما يستثير ردود فعل سلبية لا تنتج سوى المزيد من تيئيس اللبنانيين ودفعهم للابتعاد عن المشاركة في التحركات..
ومع توالد الجبهات على غير انقطاع وتكاثر الحكومات والبرامج الثورية للتغيير، ومع تضاؤل قدرة اللبنانيين على الصمود، ولا مبالاتهم حيال عبثية التحركات البعيدة عن أولوياتهم، في ظل تفاقم ظروفهم الماساوية وسط جحيم الانهيار، ولا وطنية اطراف السلطة واستهانتها بمصير البلد، فإن الانقاذ الممكن والصعب في آن، لن يتحقق إلا من خلال مشروع وطني ديموقراطي سلمي يعيد تنسيب اللبنانيين إلى وطنهم ومواطنيتهم. لأنه المدخل الوحيد والممكن لانتفاضة متجددة تستعيد المتضررين واصحاب المصالح والحقوق المهدورة والمطالب المشروعة إلى ساحات وميادين المواجهة، في مسيرة متواصلة ومتصاعدة إنقاذاً للبلد وأهله، بديلاً عن الفوضى التي تديرها قوى السلطة.
ومع تصاعد حدة المخاطر التي تهدد حياتنا ومعيشتنا ومصيرنا الانساني والوطني، فإن قوى المجتمع الحية وسائر الفئات المتضررة، التي يعنيها بقاء البلد كياناً وطنياً ومجتمعاً واحداً، مهما اختلفت هويات مكوناتها الفكرية وانتماآتها السياسية والاجتماعية والمناطقية، ومعها كل من هم خارج إطار منظومة السلطة ومستقلين عنها. لم يعد بإمكانها أن تستمر في ترف التردد أو التلكوء عن مغادرة أوهامها والتحرر من فئوياتها القاتلة. ولذلك هي مطالبة بالمبادرة إلى التلاقي للعمل سوياً في سبيل وضع وإقرار خطة واقعية للخروج من الجحيم الذي تأسرنا السلطة فيه. خطة تقي اللبنانيين خطر التفكك والزوال، وتدفع عنهم مآسي التشرّد والهجرة والمجاعة الزاحفة. خطة تفسح في المجال لإمكانية إنقاذ البلد وبقائه وطناً لنا ولأبنائنا، وسط ظروف اقليمية تضعنا جميعاً ومعنا الكيانات والدول العربية المجاورة أمام مصير مظلم.
Leave a Comment