*محمد حجيري
دأبتْ الباحثة في تاريخ النشر وصاحبة منشورات “صنوبر بيروت”، هالة البزري (بالتعاون مع شقيقها)، على البحث عن المفقودات والكتب والمنشورات النادرة والنافدة (خصوصاً منشورات “دار المكشوف”)، لطباعتها وتصديرها وإعادتها إلى “الحياة” والقارئ بطريقة أنيقة، فنية، سواء بالغلاف أو الورق أو الصور والرسوم المرفقة. فأصدرتْ كتاب “رسول العريّ” لفؤاد حبيش، وكتاب “الرسوم” للشاعر اللبناني إلياس أبو شبكة (1903 – 1947)، و”رحلة إلى بلاد المجد المفقود” لرائد الفن التشكيلي اللبناني مصطفى فرّوخ (1901 -1957)…
وتأسست دار “صنوبر بيروت” قبل أكثر من عشر سنوات، والمكتبة قبل اربع سنوات، وعلى الرغم من اصداراتها القليلة، لكنها تتعامل مع الاصدار كعمل فنيّ متكامل، يشارك فيه فريق عمل يتكوّن من هالة البزري مع أخيها المعني بالمراجعات والترجمات (ترجم صموئيل بيكيت)، ولينا مرهج وجنى طرابلسي في الرسم، وسارة شاهين في التدقيق اللغوي، فيليبا دحروج في التصميم، وعلي شوربا في الخط. أما مكتبة الدار، وهي أمتار قليلة بأفكار كثيرة، فـ”تخترق” شارع مونو في الأشرفية، تبيع الكتب المنوعة، الروائية والسياسية والشعرية، وتركز على مواضيع مثل بيروت وكتب الملصقات والمجلات الشبابية مثل “سمندل”، والفكرية مثل “بدايات”، وتتوافر فيها كتب مثل “معجم منهار” الذي يتضمن نصوصاً حرة لصحافيين ومدوّنين وكتّاب ومسرحيين، اجتمعوا على مفردات سائدة في السنوات الأخيرة تعيش في حياتنا اليومية، خصوصاً بعد انتفاضة 17 تشرين وما تلاها.
وجديد “صنوبر بيروت”، “منسيّات”، وهي سلسلة جديدة من الكتب الصغيرة، “تزور معابد وعرة هي كما الكهوف من تراثنا، لتحظى بورد نادر صافي الروح مطلّ على الأبديّة”، على ما جاء في مدخل الكتاب. تستوحي السلسلة فكرتها من “روائع” أطلقها المؤرخ والأكاديمي، فؤاد أفرام البستاني العام 1927، والتي كانت تخصص لشعراء وأدباء من التراث العربي، وأصبحت من المنسيّات أيضاً، والمرتجى والمراد من السلسلة الجديدة، إعادة إحياء نصوص بالعربية، قصيرة ومغمورة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين أو زمن النهضة، محاضرات كانت أو مقالات أو سرديات.
والكتاب الأول من السلسلة، “بيروت” للمعلم بطرس البستاني، ويشكل النص الأساسي فيه، وهو مستل من المجلّد الخامس من “دائرة المعارف” المجلد “الباء” الذي” كان الانتهاء من طبعه في 20 أيلول سنة 1881 على مطبعة المعارف في بيروت”، حسبما تشير صفحة عنوانه. مادة “بيروت” الموسوعية هذه، الغنية بتفاصيل تعكس زمن كتابتها واتساع علوم كاتبها صاحب “محيط المحيط”، تغيب عن معظم المراجع الحديثة التي تتحدّث عن تاريخ العاصمة اللبنانية. ومن الصعب أن يصل الباحث أو القارئ إلى دائرة المعارف لندرة نسخها ونفادها من الأسواق، هذا إن خطر للباحث أن يراجع موسوعة في ما يتعلق بتاريخ مدينة.
ومادة “بيروت” عن تاريخ المدينة في عصور غابرة، رومانية وفينيقية وصليبية وأيوبية وإسلامية وقبلية، هي مدينة أزمنة متراكمة، تعرضت لجولات عنف ونكبات وغزوات وفتوحات. فيرصد البستاني مثلاً أنه في سنة 1144، انتقل المشايخ التلاحقة (آل تلحوق) وسكنوا رأس بيروت، فحدثت فتنة بينهم وبين أحد أمراء بني الحمراء، فقتلوه ورحلوا عنها إلى الغرب. وذات يوم، أتاها الشيخ شاهين تلحوق، فقتله أهلها، فأتى ولداه برجالهما وقتلوا من أهالي بيروت 470 نفساً…
وتعريف البستاني للمدينة، مكتوب في مرحلة عندما كانت بيروت تقفز من قرية ساحلية إلى مدينة متوسطية، إذ أخذت الدول الأجنبية ترسل قناصلها وتشابكت التدخلات الأجنبية، المصرية، الإنكليزية، الفرنسية، الروسية، الأميركية – التبشيرية وطبعاً العثمانية، واتّسع “نطاق” تجارة بيروت(خصوصاً تجارة الحرير)، مما زاد سكانها عدداً. ثم حلّت الحرب الأهلية التي نشبت نارها في نواحي لبنان، ونشأ عنها “اتيان عيال كثيرة من الجبل للإقامة فيها فعظم شأنها”… وكان أول من سعى إلى إنشاء المدارس المرتّبة، القساوسة الأميركان ولهذا “كان لهم فضل الأسبقية في الأمر وكذلك في الطباعة”.. ثم جرت الحرب الثانية في لبنان بين الدروز والنصارى، وكانت ثمرتها اتساع دائرة بيروت وزيادة عدد سكانها أيضاً. و”حدثت التعدّيات في دمشق ووادي التيم ولبنان وكانت تعديّات هائلة مُتلِفة مالاً ورجالاً. فتقاطر إليها الهاربون من كل جهة حتى ضاقت بيوتها بهم وبأهلها وانتقل كثير من عيال دمشق أيضا واستوطنوها” وأصبحت مدينة اللاجئين والغرباء.
وعدا المدارس المتعدّدة، إذ كانت لكل طائفة مدرستها، بدأت المطابع، الأميركية واليسوعية، ثمّ مطبعة حديقة الأخبار، والمطبعة العمومية، ثم المطبعة الكلّية، ثم مطبعة المعارف، ومطبعة جمعية الفنون، ومعها انتشار الجرائد، والمستشفيات. ومما زاد بيروت رونقاً وأكسبها تحسيناً “طرق المركبات فيها وبينها وبين دمشق والجبل. وماء نهر الكلب الذي جرّته إليها بأنابيب حديدية شركة انكليزية سنة 1875 فنشأت عنه زيادة جنائنها وأسباب الراحة والحظ لأهليها”… ولمّا كان أهل بيروت، خاصة النصارى منهم، “قد سبقوا بالصوالح التجارية والوسائل الأوروبية وتسهيلات الاتصال بأوروبا أو الانعكاف على تحصل ما يكسبهم المعارف التي يحتاج إليها من أصبح في مركزهم. كان لا عجب مِن سبقهم سكان جميع الثغور ومدن الداخلية بإقبالهم على ترقي المعارف العصرية بينهم وانتظام تجارتهم واكتساب فن الصنائع الافرنجية وغير ذلك مما جعلهم أقدر أهل سورية على التقدّم”.
وفي قراءة الكتاب أو الكتيب، وهو يستعيد جوانب مكثفة من التاريخ والأحداث والسرديات، ينتبه القارئ إلى الهوامش التي ترصد تبدّلات في لفظ بعض أسماء الأمكنة ومعاني بعض التعابير. فالمنطقة المعروفة اليوم باسم ميناء الحصن في بيروت، كان اسمها ميناء الحسن. وأضنة التركية، كانت أطنة وكانت قبل أدنة. وكلمة الأمنيّة كانت تأتي بمعنى الأمان. وكان نهر بيروت ما زال يجري وفيه مرسى مراكب اسمه “الغناس”(نقلاً عن “منزول بيروت” لفاخوري)، وقد اختفى النهر والمرسى.
(*)المقال نشر في المدن الالكترونية يوم الخميس 2023/12/07 . والكتاب مرفق بسيرة للبستاني أعدّتها رنا عيسى.
(**) ستكون لسلسلة “منسيّات” عودات لكنوز المعارف، على أن الجزء المقبل سيكون لمعلم آخر من بدايات عهد الطباعة والصحافة في لبنان والمشرق، وهو العلامة أحمد فارس الشدياق مع أحد مقاماته الظريفة.
Leave a Comment