اقتصاد صحف وآراء

حربا غزة وأوكرانيا.. تبلور الإصطفافات بين تكتلين دوليين (4/3)

* غالب أبو مصلح    

ربطت قيادات أوروبيَّة وأميركية بين حربَي غزَّة وأوكرانيا. رأت رئيسة المفوَّضيَّة الأوروبيَّة، أورسولا فون دير لاين، أن هاتين الأزمتين، على الرَّغم من اختلافهما، تدعوان أوروبا وأميركا إلى اتّخاذ موقفٍ مشترك، من أجل حماية “ديمقراطياتها”. وعبَّر الرَّئيس الأميركي، جو بايدن، عن هذه الرؤية، طالباً من الكونغرس تمويلاً يصل إلى 100 مليار دولار- برغم أزمة الدَّين الأميركي- متعهّداً بعدم السَّماح “للإرهابيين” مثل “حماس” و”الطُّغاة” مثل الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بالانتصار!

إن الصّراع في غزَّة كما في أوكرانيا، بنظر الغرب الأميركي-الأوروبي، هو بين “الديموقراطيَّة والاستبداد”، بين “الحضارة والبربرية”، بين “الحرّيَّة والعبوديَّة”، بين “الخير والشَّر”، بين “الحق والباطل”، كما كان الغرب يُصوّره إبَّان الحرب الباردة التي أعقبت انتهاء الحرب العالميَّة الثَّانية. تمتد ساحة الصّراع على مساحة العالم، وتُقرّر مصير العالم في الوقت ذاته. و”الديموقراطيَّة” تعني مصالح مراكز النّظام الرَّأسمالي العالمي. تبقى هذه “الديموقراطيَّة”، بنظر الغرب، “طاهرةً نقيَّة”، برغم عنصريَّتها وفاشيَّتها وجرائمها؛ فهي كطيفٍ لا تجرحه ضربة سيف، ويمكن استعمال أيَّة وسيلة وأي سلاح من أجل “حمايتها”.

يقول إريك والبرغ في كتابه “إمبرياليَّة ما بعد الحداثة” (Post Modern Imperialism): “كما فعلت بريطانيا لفتح سوق الصّين وإضعافها، استعملت الولايات المتَّحدة تجارة المخدَّرات كسلاحٍ في سياستها شبه العسكريَّة. إن استراتيجيَّة الولايات المتَّحدة لمنع دول العالم الثَّالث من الخروج من النّظام الامبريالي دفعتها إلى التَّحالف مع تجَّار المخدَّرات”.. ويقول روبرت كووبر، مستشار طوني بلير، رئيس وزراء بريطانيا الأسبق: “إن التَّحدّي في عالم ما بعد الحداثة هو التَّعوُّد على قبول المعايير المزدوجة. يمكن للأوروبيين أن يتصرَّفوا مع بعضهم على أساس القانون والأمن المشترك، ولكن عندما يتعاملون مع العالم الخارجي، علينا العودة إلى الأساليب الأكثر خشونة التَّابعة لمراحل سياسيَّة سابقة: القوَّة، الهجمات الاستباقيَّة، الخداع، وكل ما هو ضروري. بين بعضنا نحافظ على القانون، ولكن عندما نعمل في الغابة علينا أيضاً أن نتّبع قوانين الغابة”.

وبالتَّالي، فإن الولايات المتَّحدة وحلفائها الأوروبيين يخوضون حرب تدميرٍ في غزَّة لاقتلاع شعبها بواسطة النّظام الصَّهيوني وبوسائل حربٍ من خارج إطار القوانين والأنظمة الدَّوليَّة. ما يجري في غزَّة وأوكرانيا حروبٌ محصورة جغرافيَّاً تدفع إليها الولايات المتَّحدة، ويتخوَّف العالم من انزلاقها إلى الحرب الشَّاملة التي يمكن أن تعني فناء البشريَّة بالسلاح النَّووي. تُشكِّل هذه الحروب المحصورة جغرافيَّاً جزءاً عضويَّاً من معركةٍ تشمل كل مستويات الصراع، الاقتصاديَّة والماليَّة والتّجاريَّة والعلميَّة والتّقنيَّة والسّياسيَّة والإعلاميَّة والأخلاقيَّة.

حرب شاملة بين تكتلين

يُعَدّ نصيب الدول من النَّاتج الحقيقي العالمي مقياساً أساسيَّاً لقدراتها الشَّاملة، إذ تُحدِّد القدرات الاقتصادية إمكانيَّة تطوُّر القدرات الأُخرى على المدَيَين المتوسّط والطويل. تدخل عوامل عديدة في تقدير القدرات الشَّاملة للدُّول، أهمُّها سلامة أوضاعها الاقتصاديَّة والماليَّة، وحجم صادراتها النّسبي من السّلع والخدمات الاستراتيجيَّة، والسَّيطرة على سلاسل الإمداد في زمنٍ نما فيه التكامل الأفقي عبر دول العالم في الصّناعات ذات التّقنيَّة العالية، وحاجة هذه الصّناعات إلى الكثير من المعادن النَّادرة (ومسألة المصادر وتقنيَّات الصَّهر والطرق المعقّدة للمعالجة)، وعدد السُّكَّان، والتَّحالفات الدولية، والسَّيطرة على أمن وطرق التّجارة الدولية ـ البحريَّة منها بشكلٍ خاص، حيث تمرّ 90% من تجارة السّلع الدولية ـ والقدرات الإعلاميَّة، إذ يصنع الإعلام الرأي العام الضَّاغط على قيادات دولٍ في العالم، وربَّما يحدّ من وحشيَّة وإجرام بعضها. وبتطوُّر وسائل الإعلام وتقدُّم تقنيَّاته، أفلت الإعلام من سيطرة دكتاتوريَّة رؤوس الأموال والدُّول الاستعماريَّة إلى حدٍّ بعيد، كما تبيّن جرائم “إسرائيل” وأميركا في غزَّة.

في هذه الحرب الشَّاملة بين تكتُّلين دوليَّين أخذا في الاستقطاب والتَّبلور، بدفع معظم دول العالم للانحياز لأحدهما، تقف الولايات المتَّحدة على رأس التَّحالف الرأسمالي الإستعماري النَّاهب لثروات معظم شعوب العالم، وتقف الصّين في مقدّمة الدُّول النَّاشئة السَّاعية إلى تحرير شعوب العالم وتغيير النظام العالمي الرَّاهن.

لقد إستطاعت الولايات المتَّحدة، عبر حربها في أوكرانيا، حشد الدُّول الأوروبيَّة خلف سياساتها الامبرياليَّة، ودفعها لتقليص بل قطع علاقاتها مع الاتّحاد الروسي، وخاصَّة الدَّولة الأوروبيَّة الأكبر، ألمانيا، برغم علاقاتها القويَّة والمتشابكة مع الاتحاد الرُّوسي؛ كما تدفع الولايات المتحدة ألمانيا إلى تقليص علاقاتها مع الصّين أيضاً، ملحقةً بألمانيا ضرراً اقتصاديَّاً متصاعداً. ودفعت واشنطن هذه الدُّول المأزومة اقتصاديَّاً إلى رفع نسبة موازناتها العسكريَّة من ناتجها الإجمالي، وإلى تحمٌّل جزءٍ كبيرٍ من كلفة حربها الأوكرانيَّة. ونجحت واشنطن في دفع اليابان وأستراليا وكندا إلى مزيدٍ من الإنفاق العسكري والاصطفاف خلف سياساتها المعادية للصين، ولو على حساب المصالح الاقتصاديَّة والتّجاريَّة لهذه الدول.

تتحمَّل الولايات المتَّحدة، برغم أزمتها الماليَّة الرَّاهنة، جزءاً كبيراً من عبء الحرب الصهيونية على فلسطين، وذلك عبر وضع مخزونها الاستراتيجي من السّلاح والذَّخائر في كيان الاحتلال، كما عبر جسرٍ جوّي أقامته لإمداد جيش الاحتلال بالذَّخائر والصَّواريخ وغيرها من المعدَّات العسكريَّة. تم إرسال أكثر من 200 طائرة عسكريَّة ضخمة تحمل أحدث ما أنتجته الولايات المتَّحدة من هذه الذَّخائر والأسلحة، حتى أواسط كانون الأول/ديسمبر 2023.

إن السّياسة العدوانيَّة الأميركية تدفع بعددٍ متزايدٍ من الدُّول النَّاشئة المتوسطة الحجم في العالم إلى الانضمام لتكتُّل “بريكس”، ليصبح التكتُّل المُمَثِّل الحقيقي للأكثريَّة السَّاحقة من شعوب العالم، وليتمكن هذا التَّكتُّل من إعادة صياغة النّظام العالمي، مع محاولات تجنّب حروبٍ عالميَّةٍ انتحاريَّة. 

الصين وسؤال النموذج البديل

إستطاعت الصّين الشَّعبيَّة تحقيق نموٍّ وتنميةٍ اقتصاديَّةٍ سريعة، من دون الوقوع في فخ المديونيَّة، عبر الاعتماد على الاستدانة الخارجيَّة في تمويل التَّنمية، وعبر رفع معدَّلات الادّخار فيها إلى نسبٍ مذهلة وصلت إلى أكثر من 50% من النَّاتج المحلي، وحقَّقت معدلات نموٍّ فاقت في مراحلها الأولى والمتوسّطة 14% سنوياً (كان معدَّل التوظيف لزيادة الإنتاج 3/1، وارتفع بعد مراحل من النُّمو إلى حوالي 5/1)، وعبر التركيز على قطاع الصّناعة والتَّقدم العلمي والتّقني. ورفعت الصّين قدراتها الدّفاعيَّة، من دون أن تقع في فخ استنزاف قدراتها الاقتصاديَّة في سباق تسلّح، وذلك عبر البناء غير المتوازي لقدراتها العسكريَّة، ونجحت في ذلك. وبعد تراجعها عن تمويل ودعم حركات ثورية في دول العالم الثَّالث، عملت الصين على بناء علاقاتٍ تجاريَّة واقتصاديَّة مع هذه الدُّول، لتساعدها على النُّمو خارج إطار سيطرة مؤسسات النّظام الرَّأسمالي السَّائدة في العالم، ونجحت أيضاً في ذلك. فقد بنت الصين علاقاتٍ مميَّزة مع القارَّة الأفريقيَّة، ومكَّنت دولها من أن تحقّق نمواً اقتصادياً سنوياً يزيد معدّله عن معدّلات نمو الاقتصاد الأميركي بنسبة 3.3%. وحتى في أميركا اللاتينيَّة التي سُمِّيَت بالحديقة الخلفيَّة للولايات المتَّحدة، وحيث منعت أميركا الدُّول الأوروبيَّة من التدخّل في شؤون تلك الدُّول، وفقاً لمبدأ “مونرو”، استطاعت الصّين أن تدخل بقوَّة إلى تلك الدُّول، برغم عدائيَّة أميركا لها، وبفضل عدائيَّة أميركا لمصالح دول أميركا اللاتينيَّة. في هذا السياق، تقول “الإيكونوميست” في عددها الصادر في 15 تموز/يوليو 2023:

“مع بداية هذا القرن، تجاوزت الصّين الولايات المتَّحدة لتصبح الشَّريك الأوَّل في التّجارة مع أميركا اللاتينيَّة. إرتفعت التّجارة في السّلع بين الصّين وأميركا اللاتينيَّة إلى 445 بليون دولار في سنة 2021، من 12 بليون دولار في سنة 2000 (…). أصبحت الصّين أحد المصادر الكبرى للإقراض في المنطقة: بين 2005 و2021 قدَّمت المصارف الحكوميَّة الصّينيَّة قروضاً بقيمة 139 بليون دولار للحكومات في أميركا اللاتينية، ووظَّفت بلايين الدولارات في المنطقة، وخاصَّةً في الطَّاقة والتَّعدين. إنضمَّت 21 دولة في أميركا اللاتينية إلى مشروع الحزام والطَّريق، وتتَّجه بلدان أميركا اللاتينيَّة إلى “اليوان” في تجارتها، وتشمله في احتياطات بنوكها المركزيَّة. في السَّنة الماضية تقدَّم اليوان على اليورو في البنك المركزي البرازيلي. منذ سنة 2017 قطعت خمس دول في أميركا اللاتينيَّة علاقاتها مع تايوان لمصلحة الصّين”.

تعمل الولايات المتَّحدة على دفع الدُّول الأوروبيَّة إلى تقليص اعتمادها على الصّين وخفض علاقاتها معها. لكن تلك الدُّول، وبسبب الأضرار النَّاجمة عن قطع جُلّ علاقاتها مع روسيا الاتّحاديَّة، واستنزافها في حرب أوكرانيا، أصبحت غير قادرة على الاستغناء عن سلاسل الإمداد الصّينيَّة وعن السُّوق الصّينيَّة، بسبب اتّساع هذه السٌّوق وتدنّي كلفة الإنتاج فيها واعتمادها سوقاً أساسيَّاً للإنتاج كما للطَّلب على الانتاج الأوروبي. تمثّل سياسات استعادة التَّصنيع في الولايات المتَّحدة، والدَّعم الذي تقدّمه الحكومة للشَّركات الأميركية، منافسةً غير عادلة للشَّركات الأوروبيَّة، مما يعني استحالة قطع العلاقات الأوروبيَّة-الصّينيَّة أو حتى تقليصها.

وعلى نقيض سياسات الغرب الاستعماريَّة تجاه دول العالم الثَّالث، تعمل الصين على تزويد تلك الدُّول بالعلوم والتَّقانة الحديثة، بدل سياسة “ركل السُّلَّم” التي مارسها الغرب الرأسمالي طيلة قرون بحق الدول النامية بهدف منعها من النهوض واللحاق بالغرب إقتصاديَّاً. وتقول  مجلة “الإيكونوميست” في عددها الصادر في 19 تشرين الأول/أكتوبر 2023، في هذا الخصوص:

“منذ سنة 2016، بَنَت الصّين 27 جامعة تقنيَّة لتعليم عدد من التّقنيَّات، منها الذَّكاء الاصطناعي، صناعة السَّيَّارات الكهربائيَّة، إدارة شبكات خطوط السّكك الحديديَّة، الروبوتات.. أحد أهم هذه الجامعات جامعة العلوم الحديثة والتَّقانة في كينيا، التي تم افتتاحها في الرابع من أيلول/سبتمبر 2023”.

كان التبشير بحرّية التّجارة وفتح أسواق الدُّول النَّاشئة أو المستتبَعة سياسةً مركزيَّةً لدول مراكز النّظام الرأسمالي العالمي بعد الحرب العالميَّة الثَّانية، وخاصة بالنسبة للولايات المتَّحدة التي فرضت شروط التَّبادل التّجاري وفق مصالحها الاقتصاديَّة-السّياسيَّة على كافَّة دول العالم تقريباً، وخاصَّة الدُّول النَّاشئة، لإعاقة تحرُّرها وإنمائها. أُغرِقت أسواق تلك الدُّول بالسّلع المدعومة (المُعانة)، الزّراعيَّة والصّناعيَّة، ممَّا شكَّل إغراقاً لتلك الأسواق وإفقاراً وتخلُّفاً للدوُّل النَّاشئة.

مع دخول الصّين منظمة التّجارة العالميَّة سنة 2001، تغيَّرت أمورٌ كثيرة على هذا الصَّعيد، حيث أصبحت الصّين المستفيد الأول عالميَّاً من حريَّة التّجارة، وحقَّقت مكاسب اقتصاديَّة وسياسيَّة كبيرة نتيجة هذه السّياسة، وخاصَّة على صعيد علاقاتها مع الدُّول النَّاشئة في إفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينيَّة.

*   غالب أبو مصلح:  خبير وباحث اقتصادي، لبنان.  نشرت على موقع  180في  20/12/2023

Leave a Comment