كتب الدكتور بول طبر
تاريخياً تم استخدام تعبير “مدني” لوصف نوع معين من المجتمعات، حيث تكون فيه الهويات الجمْعية للافراد هويات طوعية تقوم على مصالح مشتركة، او قضايا يتمحور حولها عدد من الافراد دفاعاً عن تلك المصالح وطلباً لتحقيقها. على سبيل المثال، نقابات عمالية ومهنية وقطاعية، حركات بيئية وطلابية وجندرية ونسوية، إلخ. وترافقت هذه الظاهرة مع وجود نظام سياسي يقوم بدوره في إفساح المجال للهيئات والتنظيمات التي تتشكل في هذا المناخ للقيام بدورها في الدفاع عن مصالحها في جو من الحرية والديموقراطية التي يكفلها الدستور والقوانين المختصة. ومتى غابت هذه القوانين وتعطل الدستور، يموت المجتمع المدني أو ينكفيء ليحل مكانه المجتمع المحكوم من الدولة الإستبدادية وأجهزتها الأمنية. والأمثلة على هذا النوع من المجتمعات عديدة، منها المجتمعات التي حكمتها الدول الاشتراكية والدولة النازية والفاشية وتركيا الاتاتوركية والدولة الناصرية في مصر والبعثية في سوريا والعراق، إلخ. والملفت أن هذه الدول كانت تتبنى النظام العلماني، بينما يتحكم الخوف بمجتمعاتها التي لا تملك حرية التعبير عن تطلعات ومصالح مختلف الفئات التي تتشكل منها، ولا حرية المشاركة في صناعة خياراتها السياسية.
وبناءً على ذلك، نجد أن القاسم المشترك بين هذه المجتمعات هو كونها مجتمعات غير مدنية ومحكومة من أنظمة علمانية غير ديموقراطية. والملاحظ أن بعض هذه الأنظمة العلمانية كانأ أيضاً عنصرية، كما في زمن إلمانيا النازية وإيطاليا الفاشية. لكن الدولة والسياسة العنصرية يمكن لهما أن ينوجدا أيضاً في ظل نظام علماني ومجتمع “مدني”، كما هي الحال الآن في فرنسا وغيرها من الدول العلمانية الديموقراطية.
اذاً يتوجب التمييز بين العلمانية والمدنية والديموقراطية، إذْ يمكن ان نجد نظاماً علمانياً غير مدني وغير ديموقراطي. والواقع أن النظام العلماني المطلوب في لبنان وغيره ينبغي أن يترافق دائماً مع مطلب الديموقراطية التي لا يمكن تفعيلها بدون قيام مجتمع مدني حيوي وديناميكي.
من جهة أخرى، إن تعبير “المجتمع المدني” يمكن ان يُسْتخدم تمييزاً له عن “المجتمع الأهلي”، بحيث تكون الهيئات والوحدات الجمعية في المجتمع الأهلي هيئات ووحدات تقوم على الولاءات ما دون الولاء الوطني (والإنساني الأشمل بالطبع). وهي هويات إقصائية بالتعريف ومدمرة لبناء الأوطان والمواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات التي يفترض من الدولة أن تؤمنها للمواطنين. ويشكل لبنان نموذجاً واضحاً للمجتمع الأهلي حيث تسود الهويات الأهلية كالطائفية والعشائرية والقبلية والعائلية والجهوية، وهي على عكس الهويات والولاءات المدنية، تقوم على عصبيات قسرية ينتسب إليها الفرد بحكم الولادة، ويفترض أن يبقى أسيراً لها حتى نهاية العمر.
والمعلوم أن المفكر غرامشي قد ميّز بين المجتمع المدني والمجتمع السياسي في الدول الديموقراطية، التي تجاوزت الولاءات الأهلية، ليؤكد على أهمية المجتمع المدني في الصراع من أجل الإستيلاء على السلطة والدولة في نهاية المطاف. وكان رضوخ المجتمع المدني، أو بالأحرى “خصْيه” لسنوات عديدة من جانب الدولة والسلطة “الإشتراكية” من العوامل الأساسية التي أدت في نهاية المطاف إلى انهيار المعسكر “الاشتراكي” وسقوطه.
كذلك يتم استخدام تعبير “الدولة المدنية” في الأدبيات السياسية تمييزاً لها عن “الدولة او النظام العسكري”، وليس تمييزاً لها عن “الدولة او النظام الديني والطائفي”، إذْ يجوز أن يكون النظام “طائفي” ومدني في الوقت ذاته في العديد من خصائصه، كما هو الحال في لبنان والعراق على سبيل المثال.
والملاحظ أنه قد تم في المرحلة الأخيرة في العالم العربي فقط رفع شعار “الدولة المدنية”، بدلاً من “الدولة العلمانية” تلطيفاً لما يظنه البعض أن العلمانية تساوي الإلحاد. وهذه مغالطة يجب كشفها لمصلحة الدولة العلمانية والمجتمع المدني معاً. فالعلمانية الملحدة هي علمانية تمييزية وغير ديموقراطية، إذْ أنها تنتقص من حق المواطن الديموقراطي في الاعتقاد والتعبير، لا بل تؤدي إلى نسفه. ومن جهة أخرى، فإن شعار “الدولة المدنية” يحمل في طياته السماح باسم الحرية للأحزاب الدينية (والمذهبية) أن تخوض المعترك السياسي ببرنامج تسعى بواسطته إلى “تدْيين” السياسة أو “تطْييفها”، كما أظهرت تجربة الإخوان المسلمين في سوريا ومصر وتونس. إن هذا التعريف الصريح أو المبطّن لشعار “الدولة المدنية” هو أقصر الطرق لتدمير مشروع بناء الدولة الوطنية والشاملة لجميع أبنائها دون تمييز أو تفريق على أساس المذهب أو الدين.
بكلام موجز، “الدولة العلمانية” في نظام ديموقراطي متلازم مع مجتمع مدني حيّ، هي دولة ليست معادية للدين بل حامية له ولغيره من المعتقدات. وبناء على ذلك، يمكن تعريف الدولة العلمانية بالدولة التي تأخذ موقفاً محايداً من الدين وليس معادياً له. وبذلك يبقى حق الإنتساب إلى الأديان وممارسة “الطقوس” الدينية حقاً مكرساً في الدستور، ولكن دون أن يُسْمح لتلك الأديان من أن تتحول إلى أسس لبناء النظام السياسي وتشغيل الدولة. إذن في ظل الدولة العلمانية يتحول الدين بالنسبة إلى معتنقيه إلى شأن خاص وعام أيضاً، وإنما بمعنى محدد جداً بحيث يمكن لبعض القيم الدينية أن تكون مصدر إلهام لبعض المواقف السياسية، شرط أن لا تتعارض مع قيم المواطنة والديموقراطية الشاملة.
Leave a Comment