كتب الدكتور غسان صليبي
جريدة النهار 4 تموز 2021
اذا كنتَ مؤمناً أو ملحداً، مسلماً أو مسيحياً، لا يمكنك كلبناني الا أن تعيش الحدث الفاتيكاني كحدث استثنائي في حياتك البائسة. فليس عادياً البتة ان يكون شعبك متروكاً من العالم أجمع ويأتي من يطلب من هذا العالم أن يفكر في وضع هذا الشعب، ويصلي من أجله. حتى ولو كان وضعك يشبه هذا المريض الممدد على سريره، ولم يبقَ له الا الصلاة بعدما عجز الطب عن مداواته.
هذا مقالي الثاني عن الاتجاهات السياسية داخل البيئة المسيحية. ويبدو أن المقالين يأتيان بعد حدثين سياسيين في مقرين دينيين. الأول بعد الحشد الشعبي في بكركي تأييداً لمواقف الراعي السياسية، والثاني بعد اللقاء السياسي للكنائس المسيحية في الفاتيكان.
البُعد الديني في بكركي كان ضعيفاً بالمعنى الفكري، مقارنةً مع البعد السياسي، في حين أن البُعد الديني في الفاتيكان كان قوياً ومتساوياً مع البُعد السياسي في كلمة البابا فرنسيس في نهاية اللقاء. علما أن الصحافة اللبنانية أغفلت كلياً البُعد الديني، مركِّزةً على انتقاد البابا للساسة اللبنانيين.
أريد في هذا النص أن اتكلم عن البُعدين؛ بداية عن البُعد السياسي، ولاحقاً عن البُعد الديني. فمصير المسيحيين في لبنان، بحسب اعتقادي، لا يتوقف فقط على صراع سياسي، يقوده من جهة البطريرك الراعي ومن ورائه الفاتيكان، ويقوده من جهة ثانية رئيس الجمهورية ومن ورائه “حزب الله” وايران. بل يتوقف أيضاً على فهم للدين المسيحي. هنا التناقض أكبر وأخطر، بين فهم يمثله البابا فرنسيس، و”قلة فهم” يعبر عنها ويروج لها جبران باسيل واتباعه. أنا افترض أن لفهم الدين المسيحي تأثيره أيضاً على السلوك السياسي والاقتصادي، كما فعل ماكس فيبر عندما نظّر لتأثير العقيدة البروتستانتية على نمو الرأسمالية. لكني اقر بأن السلوك السياسي في الواقع اللبناني، يتأثر أكثر بالمصالح الشخصية والطائفية والاقتصادية.
اثبتت الممارسة، أنه لا يوجد مشروع سياسي وطني خاص بـ”التيار الوطني الحر” ورئيسه وعمّ رئيسه. فهم ملتحقون بمشروع “حزب الله” على المستوى الاقليمي، القائم على التبعية لإيران، وشبه ملتحقين بمشروعه على المستوى المحلي مع بعض التباينات. تجمع الاثنين رغبة في تعديل اتفاق الطائف وإعادة النظر في موازين القوى بين المذاهب. وهذا ما يلمّح إليه “حزب الله”، ويروج له باسيل دون توضيح، في انتظار الثمن الذي سيتقاضاه من “حزب الله” على مستوى المواقع في السلطة.
في المقابل يطرح الراعي حياد لبنان ومؤتمراً دولياً يرعى هذا الحياد ويؤكد القرارات الدولية، ويكرس مرة جديدة اتفاق الطائف. لا شك أن هذا المشروع يضع نصب عينيه الحد من الهيمنة الاقليمية الايرانية، والهيمنة الداخلية لـ”حزب الله”.
إنهما مشروعان متناقضان يتجاذبان المسيحيين. أو على الأصح نحن أمام سياسة قائمة على الأرض مدعومة من فريق سياسي مسيحي اصبح أقلويا في طائفته، لكنه في مواقع السلطة، يواجهها مشروع يؤيده معظم الاحزاب المسيحية الاخرى والشريحة الأوسع في الوسط المسيحي، التي لم تعد ترى بديلاً منه سوى الفيديرالية. هذا المشروع لديه مناصرون قلائل في مواقع السلطة، وهو يبحث عن دعم دولي مفقود حتى الآن، مستعيناً بالفاتيكان الذي نظم اللقاء الكنسي المسيحي الأخير خدمة لهذا المشروع على المستوى الدولي.
لا أتجاهل وجود تيار ثالث في البيئة المسيحية، لا يزال يرفع شعارات الانتفاضة، ويتمايز عن المشروعين المشار إليهما أعلاه. لكن هذا التيار الثالث في تراجع مستمر رغم أنه كان الغالب في بدابات الانتفاضة.
المسيحيون في معظمهم، هم اذاً، على ما اعتقد، أمام خيارين: إما الاستسلام للأمر الواقع الذي ادى إلى الانهيار، وإما معارضته. لكن هذه المعارضة ليست ذات طابع مسيحي صرف، بل هي بحسب اعتقادي متغلغلة لدى المذاهب كافةً، ولو لأغراض مختلفة. الطرف المسيحي المستسلم للأمر الواقع يبرر موقفه “مسيحياً”، في حين أن الطرف المسيحي المعارض يطرح مواقفه في سياق وطني.
فباسيل يربط الوجود المسيحي بـ”الدور المسيحي”، وهذه كانت رسالته إلى الاجتماع المسيحي في الفاتيكان. وممارساته تشير كلها إلى أنه يقصد بـ”الدور”، صلاحيات رئاسة الجمهورية والمواقع “المسيحية” في السلطة، التي يُفترض أن يملؤها هو واتباعه في واقع الأمر.
في حين أن البطريركية المارونية تركز في خطابها على الكيان اللبناني ودور لبنان وهويته. واذا كان هذا الدور منذ ميشال شيحا، اتخذ غالباً طابعاً اقتصادياً وثقافياً، كوسيط بين الشرق والغرب، الا أن البطريركية تعرف تماماً أن الدور الاقتصادي بات متعذراً اليوم، وهي لا بد بالتالي تفتش عن دور آخر، يتمظهر في أدبياتها بطابع يغلب عليه البُعد الثقافي القيمي. وهذا ما يتلاقى مع مفهوم الفاتيكان لهذا الدور، الذي يسميه “رسالة”.
عند باسيل، نحافظ على الوجود المسيحي من خلال المواقع، عند الفاتيكان وبكركي، نحافظ عليه من خلال “لبنان الرسالة”.
كان يمكن للطرح الباسيلي أن يكون جذاباً وشعبوياً لو أن البلاد كانت لا تزال قابلة لتوليد منافع شخصية من خلال المواقع، للأتباع أو لـ”المسيحيين” بشكل عام. فهذا ما جعل العونية، الموجودة في السلطة، أكثر استقطاباً شعبياً في بداياتها. لكن الواقع اليوم يدل بوضوح أن مصلحة معظم المسيحيين، كما معظم المسلمين هي في قيامة البلاد ككل، بعدما عمَّ البؤس معظم شرائح المواطنين. بهذا المعنى تبدو مصلحة معظم المسيحيين، وأكثر من أي وقت مضى، متطابقة مع مصلحة معظم المسلمين. لهذا السبب من الخطأ، لا بل من الظلم النظر إلى الدور الفاتيكاني من منظور المصلحة المسيحية الضيقة.
أهمية المشروع البطريركي- الفاتيكاني أنه، بتبنيه اتفاق الطائف، لا يغلق الباب أمام الذين يسعون للتغيير في الاوساط المسيحية والمسلمة، وتحديداً العلمانيين منهم، وذلك من خلال المواد الخاصة بتجاوز الطائفية، وكذلك من خلال المواد التي تؤكد الحريات، ومقدمة الدستور التي تنطلق من الاعتراف بالاعلان العالمي لحقوق الانسان. هذه ليست بتفاصيل عادية على المستوى السياسي والثقافي، في ظل أمر واقع يتحكم فيه حزب عسكري ديني على المستوى المحلي، ونظام ملالي ديني على المستوى الاقليمي. وهما الأكثر قدرة اذا سمحت لهما الظروف، على تعديل اتفاق الطائف في اتجاهات مذهبية ومتزمتة على المستوى السياسي والثقافي.
هذا يفتح النقاش حول الصفة الدينية للجهة التي تطرح المشروع المناقض للأمر الواقع، أي البطريركية المارونية والفاتيكان، وما اذا كان ذلك يعني تدخلاً للدين في السياسة.
من الافضل قبل مناقشة هذه المخاوف، التساؤل لماذا برزت هذه الجهة الدينية دون غيرها، كحاملة رئيسية لهذا المشروع المناقض لسياسة الأمر الواقع؟
قبل انسحاب اسرائيل من لبنان، وفي ظل الهيمنة العسكرية الكاملة لسوريا، كنا نلتقي أصدقاء علمانيين من كل الطوائف لنتحادث في الشأن العام. وقد لاحظنا أننا كنا جميعاً ننتظر عظة البطريرك صفير كل أحد، كمتنفس سياسي وحيد في حينه، في جو من الموت السياسي على مستوى حرية التعبير. المسألة المطروحة بالنسبة لنا لم تكن تدخّل الدين في السياسية، بقدر ما كانت موت السياسة في ظل نظام أمني سوري- لبناني يتحكم بمفاصل الحياة السياسية والإدارية والقضائية. جاءت عظات صفير المعارضة بمثابة احتجاج على موت السياسة وعدم استقلال القرار الوطني. وبالتأكيد كان لموقع صفير الديني دور في اعطائه حصانة نسبية، بالمقارنة مع المواطنين الآخرين. مع العلم أن الحصانة الدينية لم تمنع من اغتيال المفتي حسن خالد في وقت سابق.
ليس الأمر مختلفاً كثيراً اليوم، مع هوامش أوسع للتعبير وللصراعات السياسية. لكن موقف بكركي هو ترجمة أيضاً لدورها التاريخي في تأسيس لبنان الكبير، وبالتالي لحرصها الدائم على الدفاع عن الكيان الذي ساهمت في تأسيسه، والذي يتعرض اليوم لأكبر تهديد على مستوى الحدود والنظام السياسي والهوية الوطنية كما تراها هي.
تدخل بكركي والفاتيكان في السياسة لا يُخشى منه، حسب اعتقادي، لأن تتحول الدولة إلى دولة دينية، وذلك لسببين على الأقل، من دون إغفال التشابك بين المصالح السياسية والدينية، في بنية لبنان المذهبية والطائفية. السبب الأول هو أن الأمر الواقع المشكو منه والذي نعيش في ظله، يديره فعلياً تنظيماً عسكرياً دينياً، أي أن ما نخاف منه مستقبلاً، هو قائم اليوم، ومرشح لأن يتوسع على المستويات الدستورية والثقافية. السبب الثاني هو أن المشروع البطريركي الفاتيكاني يخضع للسقف السياسي لاتفاق الطائف، الذي، وإن كان قائماً على اسس طائفية ومذهبية، يفصل بين السلطتين الدينية والسياسية في مؤسسات الدولة، ويحصر التدخل الديني في المؤسسات الاجتماعية، من مثل مؤسسات الزواج والتعليم والصحة وغيرها. هذا هو التحدي الأكبر للحرصاء على عدم تدخل الدين في السياسة. من محاسن اتفاق الطائف أنه لا يقفل الباب أمام مواجهة هذا التحدي، وإن كان يعقّد هذه المواجهة.
في هذا السياق يجب عدم الخلط بين بكركي والفاتيكان، وخاصة بوجود البابا فرنسيس، الذي اعتبر أن كنيسة المسيح هي كنيسة الفقراء واذا لم تكن كنيسة الفقراء فلا تكون كنيسة المسيح. فرنسيس الذي قال في كلمته بعد اللقاء المسيحي في الفاتيكان أن “لا سلام بدون عدل”. فرنسيس الذي أكد احترامه لحرية البشر جميعا، بمن فيهم الملحدون والمثليون. فرنسيس الذي اطلق وثيقة اخوّة انسانية مع شيخ الازهر وزار المرجعية الشيعية الأولى في العراق.
عندما يقود فرنسيس سياسة الفاتيكان لا نعود نخاف نحن العلمانيين من “تدخل الدين في السياسة”، بل علينا أن نعوّل على تدخل الفاتيكان في السياسات الاجتماعية والتربوية والصحية للكنائس المسيحية الكاثوليكية، لتصبح اكثر مساهمة في تحقيق العدالة الاجتماعية، من خلال استخدام امكاناتها المالية الضخمة في خدمة رعاياها.
عندما يقود فرنسيس سياسة الفاتيكان، نربح حليفاً نحن الأقلية العلمانية في لبنان. فالرجل يرفض حتى الاعتراف بوجود جهنم، لأنه لا يتقبل فكرة أن يكون الله بهذه القساوة وهذه السادية، ولأنه في الوقت نفسه يعلي شأن الانسان ويفترض أن على الله أن يتفهمه في ظروفه ومعاناته، لا أن يعاقبه. وهو بذلك يتبع خطى معلمه يسوع الذي قال “جئت ليكون لهم حياة وليكون لهم افضل”، وليس ليتعذبوا كما يعلم بعض رجال الدين.
فرنسيس يرفض فكرة جهنم في الآخرة، فكيف اذا حل ما يشبهها على الارض. وقد شدد في كلمته في الفاتيكان أنه “لا يمكن أن يُترك لبنان رهينة الاقدار أو الذين يسعون وراء مصالحهم الخاصة دون رادع”. نعم يجب الا يُترك لبنان يتخبط في “جهنم” حماية لمصالح خاصة تُسمى زوراً “حقوق المسيحيين”. مسؤولية العمل للخروج من جهنم تقع في الدرجة الأولى على المسيحيين انفسهم، وباسم حقوق اللبنانيين جميعاً.
Leave a Comment