*حسن مدن
إن وُجِدَت “مسرحية” في المواجهة الدائرة في المنطقة، فهي “مسرحية التعارض” المزعوم بين وجهتي النظر الأميركية والإسرائيلية في طريقة إدارة هذه المواجهة، سواء تعلّق الأمر بالعدوان الصهيوني المستمرّ منذ أشهر على قطاع غزّة أو بتبادل الضربات بين إيران وإسرائيل. كلّ ما في الأمر أنّ لكلّ من رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو والرئيس الأميركي جو بايدن حسابات خاصّة متّصلة بالوضع الداخلي، فالجنوح إلى هدنة في غزّة، كي لا نقول وقف العدوان عليها، فضلاً عن التهدئة مع طهران، سيُفْقِدُ نتنياهو ورقته الأساس التي تبقيه رئيساً للحكومة في إسرائيل، في ظلّ استقطاب داخلي حَرِج، أجّجته أزمة الرهائن المُحتجزين في غزّة، فيما بايدن على عتبة انتخابات رئاسية حاسمة في الأشهر المُقبلة، والعدوان على غزّة ببشاعته المستمرّة، ومخاطر انجرار المنطقة نحو حرب إقليمية شاملة، قد تُضعف فرصته، هو الآخر، في البقاء في البيت الأبيض أربع سنوات أخرى.
أيّ حديث عن تضاربٍ أو تناقضٍ في الرؤى بين واشنطن وتل أبيب مجرّد وهم. هناك اتحاد في المصالح بينهما، راسخ واستراتيجي ومتين، وتنسيق وتعاون في تنفيذ المهام، حتى إن بدا أنّ لكلّ من المتربّعيْن على قمّة السلطة في البلديْن، نتنياهو وبايدن، بعض الحسابات التي لا تنال من جوهر التحالف بينهما، وإنّما تتّصل بأمور شكلية ليس أكثر. فاجتياح أراضي غزّة وارتكاب ما يُرتكب فيها من فظائع ما كانا ممكنين لولا التغطية السياسية والدعم اللوجستي بوجوهه كافّة من إدارة بايدن، الذي هَرع إلى تل أبيب، بعد 7 أكتوبر/تشرين الأول (2023)، ليعلن دعمه المطلق وغير المحدود لإسرائيل، وليكرّر عبارته الفظّة: “لو لم تكن هناك إسرائيل لكان علينا إيجادها”. ومثله قال وزير خارجيته أنتوني بلينكن، في أولى زياراته إلى تل أبيب، بعيد ذاك التاريخ، وإنّه أتاها، ليس بصفته وزيرَ خارجية بلاده فقط، وإنّما أيضاً، بصفته يهودياً. وواشنطن هي التي عطّلت، باستخدام حق النقض (فيتو)، كل مساعي مجلس الأمن لاستصدار قرارات بوقف الحرب أو حتى الجنوح إلى هدنة مؤقّتة.
آخر “الفيتوهات” الأميركية المتّصلة بالحقّ الفلسطيني كان تعطيل إرادة غالبية أعضاء مجلس الأمن بمنح العضوية الكاملة لدولة فلسطين في الأمم المتحدة، رغم الدعم الساحق الذي ناله المُقترح، علماً أنّ 137 من الدول الأعضاء في الأمم المتّحدة (193 دولة) اعترفت حتى اليوم بدولة فلسطين، ما يُظهر زيف كلّ ما يقال على ألسنة كبار المسؤولين الأميركيين من تأييدهم حلّ الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية مستقلّة، وسعيهم إليها. فكيف يستقيم ذلك مع تعطيل هذا القرار وسط تحذير الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس من انزلاق الشرق الأوسط إلى “نزاع إقليمي شامل”؟
مثال آخر لا يقلّ بلاغةً، وجدناه في حجم الدعم العسكري الذي قدّمته واشنطن لإسرائيل خلال تصدّيها للهجوم الإيراني ردّاً على استهداف تل أبيب القنصلية الإيرانية في دمشق ومقتل عدد من القادة العسكريين الإيرانيين. وهو استهدافٌ قوبل بغضّ طرف أميركي، فغالبية المُسيّرات والصواريخ الإيرانية أسقطتها الولايات المتّحدة وبريطانيا وفرنسا قبل بلوغها الأراضي المحتلّة.
وعن صحيفة جيروزاليم بوست العبرية، تنقل “بي بي سي” ما قالته الكاتبة الإسرائيلية كوكي شويبر إيسان: “قبل بضعة أيام فقط، بدا أنّه جرى التخلي عن إسرائيل وازدراؤها من جانب كلّ دولة على وجه الأرض تقريباً. لم يكن لدى الولايات المتّحدة أيّ مشكلة في انتقاد الطريقة التي تدار بها الحرب… وكانت النيّات الحسنة لدى الجميع تقريباً قد تأثّرت. تبخّرت في الهواء، ما جعلنا نشعر كما لو كنا وحدنا”. لكنها تستدرك: “تطوّر مفاجئ وغير متوقّع أوضح أننا لسنا وحدنا في المعركة”. ثمّ عدّدت أوجه الدعم الذي حصلت عليه إسرائيل من الدول التي ذكرنا بعضها، إذ اعترضت طائراتٍ عديدة من دون طيّار في أثناء تحليقها باتجاه إسرائيل، بأنظمتها التكنولوجية المتقدمة. كأنّ واشنطن والمُنخرطين معها في تحالف وأوجه تعاون بدّدوا الوهم الذي يجرى ترويجه عن تعارض في المواقف. فعندما يتعلق الأمر بما يصفونه “أمن إسرائيل”، فإنّ هؤلاء الحلفاء، بقيادة الولايات المتحدة، لن يتردّدوا في الانخراط المباشر في المواجهة التي قد تدفع المنطقة نحو حربٍ إقليميةٍ لن تُبقي ولن تَذر، فليس المهمّ أمن المنطقة واستقرارها وسلامة شعوبها وحقّها في السيادة، وإنّما حماية “الصنيعة” إسرائيل.
*نشرت في العربي الجديد يوم 21 نيسان / ابريل 2024
Leave a Comment