الدكتور أمين الياس*
أريد بداية أن أؤكّد أنّني أظلم محسن إبراهيم فيما سأتوجّه إليه من أسئلة. وكيف لا وأنا أسائله وهو بات في عالم الذكريات، أمّا أنا فلا أزال أعيش، وباقي اللبنانيّين، زمن انهيار التجربة اللبنانيَّة بكلّ أبعادها. نعم الظلم الذي سيلحق بمحسن إبراهيم جرّاء هذه المساءلات وهذا العتب سيكون كبيراً، لكنّني أعلم أنّه، بما مثّله من حالة نقدية للواقع اللبناني ولواقع اليسار ولواقع الاشتراكية، قد يكون الوحيد المؤهّل لتلقّي هذا الظلم. ولكنّ لأكون منصفًا، لا أريد من مساءلاتي أن تبدو وكأنها إدانة لمحسن إبراهيم ولليسار، فهذا ليس دوري هنا ولا مبتغاي. وإن كان هناك من يتحمّل مسؤولية ما حصل من نكسات لمشروع لبنان الذي نرتجي، فإن هذه المسؤولية تقع على كلّ من كان في موقع مسؤولية منذ نشأة هذا الكيان وحتى يومنا.
لكن، قبل الشروع في عمليَّة المساءلة والعتب الظالمة هذه، من المهمّ الإشارة إلى أنَّ محسن إبراهيم ومنظمة العمل الشيوعي كانوا الوحيدين الذين راجعوا تجربتهم السياسية والنضالية بشكل جدي ودون أية بهرجات إعلاميَّة. وكانوا من الجرأة بمكان أنّهم ذهبوا إلى مستوى من النقد، ليس فقط فيما خصّ السياسة والممارسة (وهو الأمر الذي نجده في الكتاب المنشور للمنظمة بعنوان أوراق يسارية، نصوص حزبية لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، 2016)، بل وصل بهم المطاف إلى نقد عقيدتهم الأيديولوجية بكل تشعباتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والفلسفية (في الاشتراكية، نص نقدي تحليلي لمنظمة العمل الشيوعي في لبنان، 1993).
أبدأ مساءلتي الأولى: لماذا لم يستطع اليسار أن يكوِّن تلك القاعدة أو تلك الأرضية التي توحّد كلّ اللبنانيين من كل الجماعات الطائفيَّة خاصّة مع بدء تصاعد الاشتباك الطائفي بعد اتفاق القاهرة في العام 1969؟ بتعبير آخر، كيف وجد اليسار اللبناني نفسه، ومن ضمنه منظمة العمل الشيوعي بقيادة محسن إبراهيم، في حالة من الالتباس الطائفي، متحالفاً مع الإسلام السياسي، بمواجهة الشطر الآخر من البلد الممثّل بغالبية المسيحيين، تلك الغالبية التي كان اليسار يصف جزءاً منها بالمارونية السياسية وجزءاً آخر باليمين؟ لماذا لم يصل اليسار ولا المنظمة في خطابهم ومشروعهم وممارستهم إلى وجدان المسيحيين؟ هل يعقل أن كل المسيحيين كانوا بورجوازيين؟. أين كان هذا اليسار من هموم مزارعيهم وفلاحيهم وعمالهم وهمومهم الوطنية وتعبيرهم الهوياتي وخوفهم على خصوصيتهم؟ السؤال الأخطر هنا: لماذا هجرت غالبية النخب ذات الانتماء الوجداني المسيحي اليسار بعد العام 1969 وخاصة بعد بدء الحروب في لبنان العام 1975؟
أذهب أبعد من هذا لأسأل: لماذا قَبِل اليسار أن يقدّم التنازل تلو التنازل للإسلام السياسي في لبنان، فيشارك في اجتماعات يرأسها مفتي الجمهورية، ويتنازل عن مشروع العلمنة لمصلحة الشعار الإسلامي المتمثّل بإلغاء الطائفية السياسية، ولا يجد أية نقطة لقاء مع الجماعة المسيحية التي كانت أقرب إلى المشروع العلماني من حلفائه المسلمين؟ هل فعلًا كان اليسار يساراً، أم أنه كان ردَّة ذات ميل إسلامي على فرض الموارنة مشروع لبنان الكبير عليهم في الأول من أيلول 1920؟ وإلا كيف نفهم الاندماج الكامل لليسار في العمل الفدائي الفلسطيني إنطلاقًا من لبنان وعلى حساب لبنان، وبما يتخطى قدرات لبنان؟ وكيف نفهم الذوبان التام لليسار في القومية العربية، بما يتناقض وطبيعته الأممية، على حساب الوطنيَّة اللبنانيَّة؟
مساءلتي الثانية: إن مراجعة خطاب الانتلجنتسيا المسيحية منذ العام 1948 والتي تتمثّل بكتابات ميشال شيحا وشارل مالك وكمال يوسف الحاج وسعيد عقل ويواكيم مبارك وميشال حايك وميشال الأسمر وغيرهم الكثيرين الكثيرين تظهر بما لا يحمل أي شك انضمام الوجدان المسيحي بقناعة عميقة إلى القضية الفلسطينية كقضية إنسانية عربية. كل الاعتراض المسيحي على الوجود الفلسطيني المسلّح في لبنان كان خوفاً من فقدان الدولة لسيادتها على أرضها، وهذا ما أكدته الأيام. لماذا لم يستطع اليسار، وهو الذي تحالف عضوياً مع المنظمات الفلسطينية المسلحة، لا سيما منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات، أن يكون صلة وصل إيجابية بين جزء كبير ومؤسس للبنان الكيان والدولة وحركة المقاومة والكفاح الفلسطينية. لا بل يمكنني حتى أن أطرح السؤال: لماذا لم يستطع اليسار أن يكون صلة الوصل بين المنظمات الفلسطينية والدولة اللبنانية؟ لربما كان من الممكن أن نتفادى مواجهة دموية كانت من نتائجها تدمير الدولة اللبنانية وتدمير اليسار وهزيمة حركة المقاومة الفلسطينية في لبنان على السواء.
السؤال الذي يطرح نفسه حقاً هنا: هل كان اللبنانيون بهذا القدر غرباء عن بعضهم البعض، حتى أن اليسار، وهو المفترض به أن يكون أرضية تجمع لبنانيين من مختلف الجهويات والانتماءات الدينية والجندرية، عابراً للطوائف والمناطق والانتماءات، بدا وكأنه منحازاً لفئة طائفية ضد فئة طائفية أخرى. أوليس هذا الانحياز ما اعتبره الكثير من اليساريين فيما بعد أحد أكبر أخطاء اليسار القاتلة. وبدل أن يكون اليسار عنواناً لانقسام اللبنانيين أفقياً وطبقياً، أضحى اليسار عنواناً للإنقسام عامودياً، يا ليته كان ما بين يمين عابر للطوائف والمناطق، ويسار عابر للمناطق وللطوائف، بل كان انقساماً بين غالبية المسلمين المنحازين للفلسطينيين، بما يمثله هؤلاء من رمز للقضية العربية الكبرى، وغالبية المسيحيين المنحازين لسيادة بلدهم وطبعاً لهويتهم الوطنية اللبنانية بوجه قومية عربية ملتبسة إسلامياً.
مساءلتي الثالثة: قد يكون هناك الكثير من الملاحظات على النموذج الاقتصادي اللبناني لما فيه من تحيّزات لمصلحة فئات على حساب فئات أخرى. وهذه الملاحظات هي حق. لكن الغريب في الأمر أن هذا الاقتصاد كان اقتصاداً مزدهراً رغم كل الدعاية المعادية له. فالأرقام هنا لا تكذب رغم كل محاولات “التحقير” – وهي عبارة أخذتها من الكتاب النقدي لمنظمة العمل الشيوعي – التي قام بها نخبويو اليسار. إذ بحسب أرقام البنك الدولي والتي هي منشورة على موقعه الإلكتروني، كانت الصادرات اللبنانية تشكل 70% من الواردات (مقاربة مع أرقام قبل الأزمة الحالية والتي تقارب 15%). إن كان هناك من تفسير لهذا الأمر فهو أن الاقتصاد اللبناني كان اقتصاداً منتجاً، ناهيك عن الإنتاج على مستوى تقديم الخدمات السياحية والمالية والفنية والثقافية على مستوى العالم العربي وعلى مستوى العالم حتى. كانت العملة اللبنانية من أقوى العملات في العالم (إذ لم يتجاوز الدولار الثلاث ليرات طيلة فترة ما قبل 1975، حتى أنه وصل في العام 1974-1974 إلى حوالي 2،17). الدخل الفردي في لبنان بدوره كان من الأعلى في المنطقة على الرغم من أن لبنان لم يكن لديه أي من الثروات الطبيعية التي كانت تتمتع بها دول الخليج العربي. ناهيك عن قطاع مصرفي كان من الأقوى والأقدر على مستوى كلّ المنطقة. حتى أنَّ الحركة العمالية استفادت من هذا الواقع نتيجة تطور الصناعة وقطاع الخدمات وقطاع التجارة والسياحة. وكان مرفأ بيروت ومطارها من بين الأهم في العالم. والأهم أنه كان للبنان دور اقتصادي وضعه مؤسسو لبنان، وكان هذا الدور واضحاً: لعب دور الوساطة الثقافية والتجارية والسياحية والصناعية والتجارية والسياسية حتى بين الشرق والغرب، لا سيما بين أوروبا وأميركا والدول العربية، بخلاف العقيدة التي ظهرت مع وصول الرئيس الحريري إلى السلطة وهيمنة الميليشيات على مفاصل الدولة، والتي تقوم على الاقتصاد الريعي الذي يعاكس تمامًا اقتصاد ما قبل العام 1990. بحسب الأرقام أيضًا كانت الميزانيات كلها خالية من أي عجز، حتى إن الفائض في هذه الميزانيات تمّ استعماله في تمديد أذرع الدولة في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين إلى المناطق خارج بيروت وجبل لبنان، فتعززت الجامعة اللبنانية الوطنية، وتعززت المدرسة الرسمية، وامتدت الطرق وشبكات الكهرباء والمياه إلى غالبية القرى والبلدات اللبنانية. صحيح أنّه كان هناك تقصير من الدولة آنذاك إزاء الكثير من المناطق لا سيما تلك البعيدة عن بيروت، لكن علينا أن لا ننسى أنّ هذه الدولة الوليدة وذات الموارد القليلة استطاعت أن تتمدّد في 25 عامًا فقط (1943-1969) إلى كل المناطق اللبنانية من حيث الخدمات التي تقدمها ومن حيث المؤسسات الرسمية. لا بل إن لبنان اليوم لا يزال يقوم على أطلال هذه المؤسسات التي تمّ تدميرها منهجياً بعد العام 1975 وخاصة بعد العام 1990.
كل هذا كان من شأنه أن عزّز، من ناحية، البورجوازية الوطنية اللبنانية، ومن ناحية أخرى، الوعي الطبقي عند العمال وطبقة العامة. فنجاح اليسار ما قبل العام 1975 النضالي والسياسي كان في جزء منه يعود لهذا النموذج الاقتصادي القائم على مبدأ الحرية الفكرية والسياسية والاقتصادية بالذات، الذي قام اليسار بالثورة عليه وتحطيمه، فكان من نتيجة الأمر أن انتقلنا، بفضل وضع الميليشيات الطائفية يدها على الدولة بعد العام 1990، إلى أكثر الأنظمة الاقتصادية والسياسية فساداً وإفساداً في العالم.
طبعًا لن أتكلم عن لبنان الثقافة ولا لبنان الفن والمسرح والجامعات والمنابر الثقافية والمقاهي والمطابع ودور النشر والجرائد والمجلات. يمكنني أن أقول إن ما ادعى اليسار أنه يحاربه، تبيّن لاحقًا أنه حجة وجوده. من يمكنه أن ينكر أن اليسار اللبناني كان أكثر الحركات اليسارية في المنطقة العربية دينامية ونشاطاً وتألقاً. هل سأل أحدهم لماذا؟ بكل بساطة لأن لبنان كان أرض حرية سياسية وفكرية واقتصادية. فقام اليسار لسوء الحظ بنشر الغصن الذي يقف عليه.
أتساءل أحيانًا لو كان لليسار في لبنان، النضج الفكري والسياسي والوطني الذي كان لحركات الاشتراكية مثلاً في دول أوروبا الغربية. يكفي لك أن تزور هذه الدول وتعيش لفترة فيها لتدرك، أنها وهي المفتخرة بنظامها الرأسمالي الحرّ، تمتلك روحاً اشتراكية جعلت من كلّ فرد ومواطن رقيباً على السياسات العامة وأميناً على مكتسبات الطبقات العامية ومناضلاً لتحقيق المزيد من مفاعيل العدالة الاجتماعية. أتخايل لو استطاع يسار لبنان، بدل خوض المغامرات العسكرية العابرة للوطن، أن يكون كالاشتراكية الأوروبية في نضاله السياسي السلمي. أين كنا أصبحنا اليوم، وأين كان أصبح لبنان، وأين كان أصبح اليسار نفسه.
إن المقارنة البسيطة ما بين إنجازات اليسار الكثيرة في مرحلة ما قبل العام 1975، من حيث المشاركة في تعزيز حقوق العمال والطبقات الكادحة، إلى تعزيز الجامعة اللبنانية، إلى المساهمة في الدينامية الفكرية، إلى تطوير قوانين العمل والعدالة الاجتماعية، إلخ… لهي أهم بألف مرّة من كل ما قام به اليسار ابتداءً من العام 1975 (هذا إن استثنينا مقاومته الاحتلال الإسرائيلي) بمشاركته في الحرب الأهلية التي لم يكن من نتائجها إلا تدمير لبنان الدولة وتدمير اليسار وتدمير محاولة العيش معًا.
قد يبدو للوهلة الأولى من مساءلاتي أن اليسار هو من تسبّب بكل هذا الخراب. لكنّ هذا طبعاً ظلم بحق كل مناضلي اليسار. فتقاطع كل الاشتباكات العالمية والعربية والإقليمية والداخلية على الساحة اللبنانية كان أكبر من اليسار ومن اليمين ومن المسلمين والمسيحيين اللبنانيين. لكن السؤال الذي لا ينفكّ يراودني، هل لو استطاع اللبنانيون، يساراً ويميناً، مسلمين ومسيحيين، أن يتلاقوا على حماية لبنان في لحظة 1969، هل كان لهذه الاشتباكات أن تأخذ كلّ الأبعاد التي أخذتها مذذاك وأدت إلى انهيار التجربة اللبنانية. ما هو مقدار مسؤولية اللبنانيين، ومن ضمنهم اليسار، عمّا حصل لهم؟ قد يكون في الإجابة على هذا السؤال مخرجاً ربّما لكلّ أزماتنا وأيامنا الصعبة والمستعصية.
*أستاذ جامعي وباحث ومؤرخ ـ لبناني
Leave a Comment