محسن إبراهيم

محسن ابراهيم: المناضل المهموم بتجديد هوية اليسار و المشروع الإشتراكي

 الدكتور بول طبر*

التاريخ الاجتماعي هو تاريخ علاقات ونظم يتخللها الممارسة الانسانية الواعية والتلقائية. لذلك فإن كل دراسة للمجتمعات ولتاريخها لا تتناول الفعل الانساني هي دراسة مجتزأة وغير علمية. ومن حيث المبدأ، فإن تضمين الفعل البشري في دراسة المجتمع وتطوره هو خطوة ضرورية، ويشكِّل بحد ذاته العنصر الذي يميّز العلوم الاجتماعية والانسانية عن العلوم الطبيعية. لكن التحدي الذي يواجهه الباحث (والفاعل الثوري) في هذا المجال، هو الاقرار بأن الغاية التي تقف وراء الفعل البشري غير منفصلة في أي لحظة عن الشروط الاجتماعية التي تحيط بها من حيث نشأتها ومضمونها ووظيفتها. ومع هذا الإقرار نكون قد تفادينا خطأ تنسيب الغائية والقيم الملازمة لها لوقائع وبُنى وسيرورات خارج الفعل البشري، من جهة، وإلحاق تلك الغائية بالإرادة الانسانية المحضة، من جهة أخرى. الحتمية التاريخية كما تجلّت في ممارسة وكتابات الشيوعيين كانت من النوع الاول، أي أنها نسبت “حركة التاريخ الغائية” إلى تلك الحركة نفسها مسْقطةً دور الفاعل من تلك الحركة. ويتولد عن هذه النزعة الموضوعانية أمور عديدة، منها يعود إلى المجال السياسي ومنها إلى المجال المعرفي. في المجال الأول، تؤدي الرؤية الحتمية لحركة التاريخ إلى تغيب عامل الوعي ودوره الضروري في إحداث تلك الحركة، وما يترتب على ذلك من تحالفات وسياسات وقرارات لاجمة أو معرقلة لسيرورة التغيير حيناً أو ميسِّرة ومحفزة له حيناً آخر. أما في المجال المعرفي، فإن الرؤية الحتمية نفسها تؤدي إلى تبسيط الواقع الإجتماعي وتقدمه بصفته شبيه بآلة تتحرك وفق مبدأ التناقض الدياليكتيكي دون أي وزن للفعل والوعي البشريين وبغض النظر عنهما.

هذا ما يخلص إليه محسن ابراهيم، الأمين العام السابق لمنظمة العمل الشيوعي، في القسم الأول من قراءته النقدية للماركسية. ويمكن للمطلع على كتابات ماركس أن يجد في بعضها (ويبقى السؤال مفتوحاً عن وجود ومغزى هذه الكتابات أساساً) ما يسوِّغ هذه القراءة النقدية لابراهيم، وفي بعضها الآخر ما يتفق ويتقاطع مع ما يذهب إليه الأمين العام الراحل في نقده لفلسفة كارل ماركس. وفي هذا السياق، أحيل القاريء إلى مفهوم البراكسيس الذي أشار إليه ماركس في أطروحاته عن فيورباخ، كما كتاباته الأخرى مثل “الثامن عشر من بروميرلويس بونابرت.” و”الصراع الطبقي في فرنسا”.

بالطبع أن الإقرار بالدور الذي يقوم به الوعي البشري في صياغة المجتمع وحركته يفتح باب النقاش واسعاً ولا يغلقه بالسهولة التي يتوقعها البعض. فإذا كانت مخاطبة الوعي لمصالح البشر الفعلية واندراجه في دينامية التناقضات المتولدة من تلك المصالح المتناقضة، هو شرط ضروري لإكساب هذا الوعي الفعالية الإجتماعية المطلوبة، فإن ذلك لا يلغي وجود صياغات متعددة ومتناقضة لتلك المصالح قد تؤدي إلى تكريس وإعادة انتاج الأوضاع والنظم التي تعاني منها الفئات الإجتماعية صاحبة تلك المصالح. والمعلوم أن تلك الصياغات تقدم ذاتها على عكس حقيقتها، أي أنها العلاج الشافي لمشاكل الفئات المستغَّلة والمقيَّدة والفاقدة لكرامتها (مثلاً، السرديات الطائفية لمعالجة الأزمات والمشاكل التي يعاني منها لبنان). من هنا، ضرورة التركيز على تفحص ونقد دور الوعي والممارسات التي يفرزها في محاولتنا لفهم الواقع الإجتماعي والسعي إلى تطويره نحو الأفضل. قدرة الإنسان على تخيّل الحلول لمشاكل المجتمع لا تقل عن قدرته على  إنتاج التخيّلات التي تكرس الأوضاع التي تفرز تلك المشاكل وتشرّعها. والأكيد أيضاً أن احتساب الوعي بهذه الطريقة جزء لا يتجزأ من الواقع الإجتماعي المعاش، لا يسمح بدراسة المجتمع وحركته وفق المبدأ السببي الوضعي أو المبدأ الديالكتيكي المحسوم النتائج سلفاً.  

وعلى ضؤ هذه الملاحظة، ننتقل لنتناول النقد الذي يجريه ابراهيم للديالكتيك كما استخدمه ماركس. ففي تقييمه لهذا المنهج في كتابات ماركس، يستنتج ابراهيم، قائلاً : “هكذا نجد أنفسنا أمام فلسفة تاريخ ديالكتيكية ماركسية مماثلة من حيث المنهج لفلسفة التاريخ الديالكتيكية الهيغلية مع فارق في موضوع هذه الفلسفة. إذْ لا نعود مع ماركس أمام توالد الأزمنة المتعاقبة للفكرة- كما هي الحال مع هيغل- بل نصبح أمام توالد الأزمنة المتعاقبة للاقتصاد بفضل مبدأ التناقض الداخلي الهيغلي نفسه (مبدأ الإثبات والنفي ونفي النفي). مما يصل بنا، عند ماركس، الى الإختزال الجذري لدياليكتيك التاريخ في ذلك الديالكتيك المولد لأنماط الإنتاج المتعاقبة (حيث كل واحد منها ينبثق من رحم الآخر)، أي المولد لتقنيات الإنتاج المختلفة في نهاية المطاف. وهو، هذا الإختزال، ما اصطلح على تسميته منذ نهاية القرن التاسع عشر الإقتصادوية.” (ص. 22). 

هنا أيضاً، نجد أنفسنا أمام قراءة نقدية مبررة  وضرورية لنظرية ماركس في التاريخ، رغم الإقرار مرة أخرى بوجود كتابات عديدة لماركس تتناقض مع هذا المفهوم العام والإقتصادوي لحركة التاريخ. والنقد لهذا المفهوم ضروري وحاسم من دون شك لتصفية الحساب مع القراءة الإختزالية للمجتمع وحركة تطوره. وفي هذا السياق يشير ابراهيم إلى أهمية صراع الطبقات كمحرك لحركة المجتمع والتاريخ، بدلاً من اعتبار تطور “قوى الإنتاج” هو المفتاح لتلك الحركة. ويضيف في هذا المجال، أن العديد من العناصر المتحدرة من “البنية الفوقية” تدخل في تشكيل “الطبقات” ومسار الصراع الذي تخوضه، ما يؤكد مجدداً على طلاق هذا التحليل مع المنظور الإقتصادوي المشار إليه سابقاً. والأمانة هنا تقتضي القول إن التركيز على صراع الطبقات، وعلى الصراع لتشكيل الطبقات كفاعل سياسي، ينتمي إلى تقليد ماركسي عريق بدأ مع غرامشي، مؤسس الحزب الشيوعي الإيطالي، ولم ينتهِ لغاية الآن رغم تراجع التركيز على هذا النوع من الصراعات، والتركيز أكثر فأكثر في العقود الأخيرة على تشكل هويات وفاعلين في الحقل السياسي غير طبقيين (حركات نسوية وبيئوية وجندرية ودينية إلخ.). هذا المسار في التحليل الذي يشتمل ليس فقط على إعطاء الأولية للطبقات ومسار تشكلها المتعرج، وإنما أيضاً على ما اصطلح على تسميته بـ “سياسات الهوية”، قد تطور أكثر مستنداً إلى كتابات فيبر، ومن بعده كتابات بورديو (منذ سبعينيات القرن الماضي) التي طورت تحليل وفهم “المكانة الإجتماعية” و “السلطة” لدى الأول، ودعت إلى اعتماد مفهوم “الرأسمال الرمزي” و”الرأسمال الثقافي” و”الرأسمال الإجتماعي”، إضافة إلى “الرأسمال الإقتصادي”، والحقول الخاصة بكل رأسمال وتفاعلها مع بعضها البعض، في تفسير بنية المجتمع و”البراكسيس” بشكل عام. ومع بورديو، نكون قد دخلنا في مرحلة تفسير وفهم المجتمع وحركته على أساس ليس فقط إعطاء الوعي دوراً ملازماً في تفسير المجتمع وحركته، وإنما نكون أيضاً قد أفسحنا المجال لإعطاء “البنية الفوقية” دوراً مستقلاً، فاعلاً ومتفاعلاً مع “البنية التحتية”. الأمر الذي يجنبنا التحليل والفهم الإقتصادوي/الإختزالي للظواهر الإجتماعية وحركة تطورها، ويضفي الطابع المنتظم والمتبدل لـ”البنية الفوقية” بمختلف تفرعاتها الثلاثة الأساسية: الرمزية والإجتماعية والثقافية، وما يتفرع منهم من حقول فرعية، كالحقل السياسي والحقول الخاصة بتاريخ وبُنية كل مجتمع بمفرده (مثلاً الحقل الطائفي في لبنان).

أتوقف عند هذا الحد، لأقول إن نص الأمين العام الراحل لمنظمة العمل الشيوعي “في الإشتراكية” هو أولاً، نص يتميز بأنه يضع الأصبع على القضايا الأساسية في كتابات ماركس الفكرية والكتابات الماركسية  عموماً، وهو صادر في الوقت نفسه عن قيادي مناضل أمضى معظم حياته يعمل في المجال  السياسي المباشر. وهذا الأمر (النضال السياسي مصحوباً بالعمل الفكري) نادراً ما يتوافر عند القيادي الشيوعي المناضل والمهموم باطراد بإيجاد الجواب على سؤال “ما العمل؟”. وثانياً، هو نص نادر في المشهد اليساري الشيوعي العام في لبنان والعالم العربي لجهة الجرأة الفكرية التي يتسم بها، وهو يتناول الكتابات التي كتبها ماركس ناقداً إياها دون التفريط ببعض الكشوفات التي لا تزال صالحة، وداعياً في الوقت ذاته إلى تجاوز بعض الأوجه التي ثبت خطؤها بالتجربة والتحليل معاً. ثالثاً وأخيراً، أجد أن النقد الذي يقدمه ابراهيم في هذا المضمار يشكل المدخل الضروري لتجديد الفكر الأشتراكي بما يتماشى مع حاجات العصر ويحرر الفكر اليساري من القيود التي تعيق بناء العدالة الإجتماعية وتحقيق المساواة والحرية في المستقبل.

* أستاذ جامعي، باحث وكاتب لبناني            

Leave a Comment