ثقافة

مرسال ورامي خليفة في دار الأوبرا ـ سيدني:بين أغاني السبعينيات وهدوء المحيط وهديره

بول طبر

مساء الإثنين في 6/2/2023، أقام الثنائي، مرسال خليفة ورامي خليفة، حفلة غنائية وموسيقية في دار الأوبرا في مدينة سيدني. إمتلأت القاعة بالحضور الذين بلغ عددهم 2220 شخصاً. وكان ملفتاً أن الحضور لم ينحصر بالجيل الذي تربّى على سماع أغاني مرسال وموسيقاه منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، بل شمل عدداً لا يستهان به من جيل الشباب المولود في أستراليا، وعشرات من الجمهور الأنكلو- ساكسوني.  أن تقام الحفلة في دار الأوبرا (وبالحضور المشار إليه)، وهي أيقونة ترمز إلى الهوية الأسترالية، له بحد ذاته دلالة تؤشر إلى مدى نجاح الموسيقى والغناء العربييْن في احتلال موقع مرموق على خارطة المشهد الثقافي الفني في أستراليا. والأهم في هذا المقام، هو أن هذا الحفل يؤكد على المدى الذي وصلت إليه عملية الإعتراف المجتمعي بالهوية الثقافية المتعددة والمتنوعة لأستراليا والإقرار بها.

استمرت الحفلة لمدة ساعتين دون انقطاع، تخللها مجموعة أغاني بصوت مرسال مصحوباً بالعزف على العود (مرسال) والبيانو (رامي). كذلك قدّم رامي منفرداً معزوفتين على البيانو، إحداهما تتعلق بعيشه مع عائلته في سيدني، والثانية تسترجع فترة طفولته (لغاية بلوغه ثماني سنوات) التي قضاها في لبنان خلال الحرب الأهلية قبل مغادرته مع أهله إلى فرنسا. وأخيراً، شارك الاثنان في تقديم وعزف وتأليف مقطوعة موسيقية مهداة خصيصاً لصديق مرسال منذ مرحلة الشباب، جميل منصور، الذي صودف وفاته قبل أيام من موعد الحفلة.

في موضوع البرنامج المشار إليه، تكونت لديَّ بعض الإنطباعات أريد أن أتشاركها مع القراء. بداية، لا يسعني إلا أن أسجل أن استخدام العزف الفردي على العود والبيانو كان كافياً، لا بل ملفتاً، في تقديم الأغنية العربية، أكانت شعبية (مثلاً: يا بحرية) أو أنشودة حماسية (منتصب القامة أمشي)، أم أغنية ذات موضوع وجداني-إنساني أمي ( للشاعر وديع سعادة)، أحن إلى خبز أمي وريتا (للشاعر محمود درويش). وقد تبادل الإثنان الأدوار بحيث كان العود والبيانو يعزفان الإيقاع ويتوزعان الجمل الهارمونية ويتوليان عزف النغمات التي تشكِّل هويَّة الأغنية التي يقدّمها مرسال. ولقد تمَّ كل ذلك بينما حافظت الأغنية على هويتها المشرقية، ونجح العازفان بتوزيع الأدوار المشار إليها بسلاسة ومهارة وجمالية معبِّرة للغاية.

الأمر الآخر بالنسبة للأغنية الوجدانية-الإنسانية لدى مرسال تتمثل في قدرته الإبداعية في اجتراح اللحن، وبالتالي التأليف الموسيقي وما يلازمه من توزيع وتوليف، من نصوص شعرية نثرية خالية من الوزن والتفعيلة والقافية. وكأني بمرسال يستنطق اللحن من مدلول الشعر وليس من الدال، أي الأصوات التي تمليها الكلمات. وهذا بالضبط ما برع مرسال في تأليفه للألحان والنغمات لقصيدة مثل “أمي” و”أحن إلى خبز أمي” و” حط الحمام، طار الحمام”.

أما على صعيد تقديم القطع الموسيقية الثلاث، واحدة لمرسال مهداة إلى روح جميل، كما ذكرنا سابقاً، وإثنتان من تأليف وعزف فردي لرامي، فإن هذه الأعمال مميزة من حيث الأداء والمضمون كما جاء التعبير عنه بواسطة اللحن والتأليف.

بالنسبة إلى القطعة الموسيقية المهداة إلى “جميل” (من المعروف أن جميل كان أيضاً شيوعياً)، إن ما قام به العود والبيانو كفيل بأن يعبر أجمل تعبير، وأنسبه إلى الحزن الذي أصاب العازفيْن والمؤلف من جراء فقدهما لصديقهما. وهكذا نجد البيانو يتولى عزف الشعور بالحزن الملازم لهذا الحدث الأليم إستناداً إلى جمل لحنية صادرة من قلب مجروح وبكامل الأناقة التي تتمتع بها آلة البيانو، بينما يقوم مرسال بالبكاء المرْسَل والصامت عبر الجمل التي يعزفها على العود ضمن إطار الحزن الذى يرسمه رامي على البيانو. مزيج لحني وأداء يجعلانك تتألم على الشخص المتوفي دون أن تعرفه، وأن تستحضر عبره جميع من فقدتهم فيما مضى، ومن تخاف أن يغادر الحياة من حولك.

أما القطعتان الموسيقيتان اللتان تفرد رامي بتقديمهما تأليفاً وعزفاً، فما يشدُّك إليهما بصورة خاصة هو براعة العزف بكل بساطة، إذْ تكاد وانت تشاهد الأداء أن آلة البيانو قد أصبحت إمتداداً ليديْ رامي وجسده. إن الطريقة التي يعزف فيها رامي على هذه الآلة تكاد أن تنفخ فيها روح العازف وتحولها إلى كائن متّحدٍ مع رامي.

ولفتني بصورة خاصة أن القطعة الأولى هي من وحي قرار رامي مع عائلته العيش في أستراليا، مرموزاً إليه بتأليف هذه المقطوعة عن المحيط الهادي الذي يمتد على طول الحدود الشرقية للقارة الأسترالية: هدوؤه وهياجه، المدى الواسع لامتداده وزرقته المستمدة من لون السماء عندما تكون صافية، إلخ. إن جميع هذه الخصائص تجد تعبيراتها في هذه المقطوعة، إلا أن الاهم بالنسبة لهذا التأليف هو رمزيته التي تحمل معانٍ قد تحاكي المهاجر، لا سيما إذا كان من الجيل الأول. رامي وأولاده من هذا الجيل (زوجته من مواليد أستراليا). واختيار رامي للمحيط في هذه الحالة موضوعاً لمقطوعته الموسيقية يرمز إلى الحالة المتناقضة التي يعيشها المهاجر بين السعي للإستقرار في البلد المقصود، وحالة الشوق الدائم للعودة إلى البلد الأم. أوَليس المحيط هو الذي يوصل بينهما؟ إن هذه الوحدة المتنازِعة والمرْموز إليها بالمحيط هو ما أحسسته حاضراً عندما كان رامي يعزف هذه المقطوعة. وما انفعالاته الحادة تارة والهائجة طوراً آخر سوى التعبير البدني لتفاعله مع رمزية هذا المحيط.

وأخيراً تأتي مقطوعة رامي عن نشأته كطفل خلال الحرب الأهلية في لبنان. وأجد أن هذا التأليف يستحضر بلغة موسيقية مميَّزة وأداء يكاد يلغي الفاصل بين رامي العازف والبيانو كآلة موسيقية، كل ما يمْكن أن تسْتجره هذه الحرب من ألم وخوف وضيق إلخ. على الطفل الذي أصبح المؤلف والعازف. هدوء الطفل وغضبه، إستهجانه لما كان يحدث أمام عينيه، الهلع والخوف وغضب الأطفال، جميعها (وغيرها الكثير) معكوس في هذه المقطوعة والأداء المتفاعل معها صعوداً وهبوطاً.

في النهاية، لا يسعنا سوى أن نتوجه بالشكر لمرسال ورامي والشعراء الذين اجتمعوا في هذا الحفل الجميل، وتحية تقدير ودعم للعناصر الديموقراطية والنابذة للتمييز العنصري في المشهد الثقافي-الفني في أستراليا.

Leave a Comment