ثقافة

“صمت” سكورسيزي أشدّ رُعبًا من قرع طبول الحرب

يوسف اللقيس

لا استطيع أن أغوص في بحر فيلم “صمت” في البداية، إلا بعد أن أعرّج على مشوار طويل قد قطعه”سكورسيزي” مع صمته ليبصر النور. أخيرًا رحلة دامت 20 عامًا بين تأخير وتأجيل، بدأت برفض إستديوهات هوليوود التمويل وكان على الفيلم أن يصدر سنة 2002 بعد فيلمه “عصابات نيويورك”، وعندها ادرك “سكورسيزي” أن التمويل لن يتوفر، فوضع نصب عينيه وقتها فيلمه”  “the aviator  وبقي الفيلم معلقًا حتى عام 2016 .

هذه التحفه التي عانى “سكورسيزي” الأمرين لتحقيقها، هذا المؤمن الكاثوليكي الذي لا تخلو أفلامه من الخلفيات الدينية ومشاهده التي تتكلم عن الايمانيات، ان كان في تحفته الخالده “الاغواء الاخير للمسيح” في عام 1986 والذي أحدث ضجة كبيرة وقتها، وأصبح محط جدل واسعٍ وكبير، حيث وُضِع بسببها تحت مجهر الكثيرين، وعمدت بعض الدول إلى منع عرضه في صالاتها .

لم يكتفِ “سكورسيزي” بالتحدث بشكل غير مباشر في عدة من أفلامه أو بتمرير رسائل عن خلفيات إيمانية فيها، بل صرّح في مقابلات عدة بأن الكنيسة الكاثوليكية وإيمانه المسيحي قد أثّرا بشكل كبير في حياته، وهذا انعكس بشكل مباشر على أعماله إن كان بعضها يتكلم مباشرة وبشكل صريح وواضح عن المسيحية، وعن السيد المسيح خصوصًا، و أخص بالذكر هنا فيلم “الإغواء الاخير للمسيح”، لكن لم تخلُ أفلامه الأخرى أيضًا من  رسائل عميقة ومبطنة بشكل غير مباشر في الكثير من الأعمال منها “عصابات نيويورك” و”الايرلندي” و”جزيرة شاتر” وغيرها الكثير، وصولًا إلى فيلم “صمت” من بطولة “اندرو جارفيلد” بدور ( الأب سيباستيو رودريجز ) و”آدم درايفر” بدور ( الأب فرانسيس جارب ) وبدور (القس فيريرا) “ليام نيسون”، حيث احتفى به الكثير من النقاد وإعتبروه من أهم أفلام “سكورسيزي” إن لم يكن أهمها .

قصة الفيلم :

الفيلم قائم على رواية «تشينموكو» (1966) للكاتب الكاثوليكي الياباني “شوساكو إيند”، ثلاثة أصوات لثلاثة رواة: الأول وهو مقتضب ويمهّد للحكاية، بصوت (الأب فيريرا) “ليام نيسن” الذي يبدأ الفيلم برسالة منه تصل إلى البرتغال، من اليابان، بعد سنتين من كتابتها واختفائه، يليه صوت آخر هو (الأب سيباستياو) “أندرو غارفيلد”، وهو بطل الفيلم، إذ يروي حكاية ذهابه وأب آخر “آدام درايفر” إلى اليابان للبحث عن معلّمهم (فيريرا)، الذي أُشيع بأنّه ارتدّ عن الكاثوليكية وصار كاهنًا بوذيًا. والصوت الأخير لرحّالة هولندي يدوّن حكاية (الأب سيباستياو)، وهو خاتمة الفيلم. يبقى الأساس في كل ذلك هو رحلة الأبوين إلى اليابان حيث كانت تجري ملاحقات للمسيحيين وإعدام من لم يرتد منهم بالدّوس على نقش لصورة المسيح .

نظرة عن قرب :

وفي رسالته الأولى يعلو صوت يوحنا الرسول قائلًا:

“أيها الأحباء، لا تصدقوا كل روح، بل امتحنوا الأرواح، هل هي من الله؟ (1يو 4: 1) .

نسير مع “سكورسيزي” هنا في درب جلجلةٍ أخرى، تجربة انطبعت في ذاكرتي السينمائية وأضافت لها عمقًا من نوعٍ خاص. لم تقتصر وعورة الدرب على مراحل القسوة الجسدية و النفسية فقط، بل انعكست أيضًا على جلسات لفظية رائعة وحادة، والتي أصبحت على مراحل لا تُطاق من شدة عمقها وواقعيتها .
نافذةٌ دعانا “سكورسيزي” من خلالها لنلقي نظرة كانت بمثابة ملحمة إيمانية شرسة، فترة من القرن السابع عشر الذي يُعدّ من أكثر الفترات قسوةً على المسيحية، حيث عانت هذه الاخيرة فيه الأمرين على أيدي اليابانيين .وبعدسة امتهنت الحقيقة في مشهديتها العامة، تكلم مخرجنا بكل احترافية وحبّ للسينما، عبر أتقانه فنّ التنقل بين الأسطر الايمانية في الحوارات الغنية والمدوية من جهة، وبين الصّبر والتحمّل على اختبارات جسدية ونفسية من جهة أخرى، مررنا بها نحن كمشاهدين مسمّرين خلف الشاشة باختلاجات من المشاعر الصارخة والدافئة على حدٍّ سواء، وبهذا العمل السينمائي يثبت “سكورسيزي” مرة أخرى أنه واحدٌ من المخرجين الذين يمكنهم أن يتعاملوا مع قضايا معقدة بشكل تعبيري منقطع النظير .

هذا الصمت بالرغم من هدوئه إلا إني أراه يتكلم بطلاقة يملأ الفراغ ضجيجًا، هذا الصبر الذي يراه العديد ضعفًا بينما هو شعلة تزخر بقوة لا يُستهان بها .
روعة هذا العمل تكمن في الصورة، فعندما يغيب الحديث والكلام عن العمل، تظهر روعة وعبقرية صورة “سكورسيزي”، بحيث تفهم وتشعر بجمالية المشهد العام ويصلك ما يريد ايصاله لك دون حديث، مشاهد يصعب ابرازها ويصعب التعبير عنها ولكن الصورة اشرقت واشعرتنا بأدق التفاصيل لأنها كانت لسان العمل بكل ما للكلمة من معنى.

استطاع “مارتن سكورسيزي” ان يتكلم بصمته عاليًا وان يجعل صمته العظة المراد إيصالها والتي عبّرت وتكلمت عنها الصورة، مظهرًا المعاناة وجهاد الإنسان مع النفس وامتحان صبره وقدرته على التحمل مع ولادة الأمل من رحم المعاناة لتبدأ الشخصيات باظهار أقوى ما بداخلها وفي مقدمتهم “اندرو جارفيلد” الذي اظهر حرفية كانت في أعلى مستوياتها.

الفيلم ليس سوداويًا إطلاقًا فقد حرص “سكورسيزي” على إظهار شعلة مضيئة تظهر في نهاية كل منعطف مظلم لتقوم بانارته مظهرًا خيطًا رفيعًا من الامل ليتمسك به المُشاهد. أحداث تُظهر لنا ضعف النفس وانهيارها امام أشد الاختبارات مع صمت الخالق المطبق والمخيف، صمتٌ كان أشدّ رعبًا من اي اختبار جسدي من الممكن أن يتعرض له المؤمن، صمتٌ تكلم عنه “سكورسيزي” بشكل عميق خصوصًا في مشهد كان من اروع المشاهد بالنسبة لي عندما همَّ (الأب سيباستيو) على دوس صورة للسيد المسيح كاختبار من اليابانيين، كبرهان لارتداده عن المسيحية، وقبل عملية الدوس على الصورة قد خيم صمتٌ رهيبٌ في الأجواء، حتى الموسيقى التصويرية توقفت في هذا المشهد الذي تكلم بشكل صارخ بالرغم من صمته، توقفت حتى انفاس الأشخاص ليظهر صوت الصمت جليًا وواضحًا ، وبعد انتظار كان متعِبًا للنفس، لكي نرى إن كان الأب سوف يرتد أم لا، خصوصًا أنه الأخير الذي بقي صامدًا وعلى دينه وبعد صدمته من رؤية (الأب فريرا) قد ارتد منذ زمن، وقد أصبح من كبار المؤمنين البوذيين هناك، ناهيك عن اختبارات جسدية ونفسية لا تُطاق، مشهد لم يسبق لي أن عشت مثله في أي عمل سينمائي من قبل …. نطقت الصورة القابعة تحت أقدام (الأب سيباستيو) بصوت شعرنا بأنه صوت المسيح قائلًا له: “اطئ .. اطئ يا بني، لقد تحملت أكثر من هذا”.

لا ننسى التصوير الذي كان اضافة كبيرة كانت قادرة على ان تحمل على عاتقها نجاح الفيلم، و فهم مضمونه و استيعابه من خلال اعمق اللقطات و اكثرها ابهارًا ، فقوة “سكورسيزي” ظهرت في هذا العمل، من خلال قدرته على جعله عملًا دراميًا شيقًا لهذه الدرجة على خلاف القواعد ، مع وقع آسرٍ جذاب، وعادة هذا الامر ليس بالسهل ابدًا .

في العمق :

في أحد الحوارات العميقه التي قدمها لنا “سكورسيزي” على شكل لوحة غنية، تضج بالاسئلة وعلامات الاستفهام والجدال الوجودي/ الايماني على حدٍ سواء، تجسد في أحد المشاهد الرائعة في الحوار بين هذا الراهب والحاكم البوذي حيث قال له الحاكم أن جذوركم في بلادنا قد قُلِعَت ( يعني بذلك نشر المسيحية ) يجيبه الراهب: “جذورنا قُلِعَت لأن لا شيء ينمو في المستنقع”. فيجيبه الحاكم ببرود: “نعم، اليابان هو هذا النوع من البلاد .. لم تُهزَم أنت بواسطتي .. لقد هُزِمت بواسطة هذا المستنقع الياباني “.

نتأمل هنا اصدقائي هذه المعركه الشرسة التي دارت بين الراهب الشاب والحاكم، معركة افكار ومبادئ وعقائد، وكأن مصير الوجود بين يديهما فقط. لا تخلو هذه التحفه الفنيه من مشاهد تجمّد الدم في العروق مشاهد تستحق ان تُخلّد في جدارية وتُحفظ في الذاكرة السينمائية الخالدة .

من الصعب ان تقوم بتفضيل مشاهد على اخرى في هذا العمل الكامل، الذي برأيي حاز على اعلى درجات الكمال السينمائي بكل جوانبه. احد اكثر المشاهد عمقًا وتأثيرًا، هو المفاجاة الصادمة التي حدثت او الرصاصة الاخيرة إن صحّ القول عند اليابانيين، عندما أحضروا للراهب الشاب، (الأب فريرا ) هذا الأب الذي كان من ضمن المهمة الموكلة إليهما، وأحد أسباب سفرهما لليابان بحثًا عنه، وللتأكد من إشاعة إرتداده عن المسيحية، ها هو الآن قابعٌ أمامه غاسلًا يديه منذ زمن من المسيحية ومتبرئًا منها، يحاول جاهدًا اقناعه بالتخلي عن مسيحيته حفاظًا على أرواح رعاياه.
يصل الحوار إلى قمته بين الاثنين عندما يُخبر ( الأب فريرا ) الراهب الشاب أن هذا الشعب لا يعتقد بالمسيح ربًا يظهر لهم من جديد في نهاية الزمان، أنهم يعتقدون بهذا ربهم (يشير هنا الى الشمس) فهي تظهر لهم كل يوم في الصباح .
يُقنع الأب راهبه الشاب بالردة و اعتناق البوذية معه حفاظًا على حياة  هؤلاء المسيحين الفقراء، وفي مناجاة اخيرة مع نفسه ليرضيها يقول الراهب الشاب :
” ألهي لقد صارعتُ صمتكَ، لقد تألمتُ بجانبكَ، لم أكن  أبدًا صامتًا، أنا أعلم، لكن حتى إن كان الرب قد صمت طيلة حياتي بأسرها حتى يومنا هذا، كل ما أعرفه، كل ما فعلته، لقد كان في الصمت حيث سمعتُ صوتكَ .”

لقد مررتُ منذ زمنٍ بعيدٍ على مقولة عَلِقَت في ذهني من شدة عمقها، تقول بأن هناك متصوفًا من القرن التاسع عشر ميلادي قد حفر على قبره مقولة مفادها :
(يقول الإله من يبحث عني يجدني ومن يجدني يعرفني ومن يعرفني يحبني ومن يحبني أحبه ومن أحبه أفنه). ولم أجد ارضًا خصبة لهذه المقولة أكثر من فيلم “صمت” أو “silence” للكبير “مارتن سكورسيزي” هذا العمل السينمائي الذي وصل الى درجة السينما المثالية برأيي في روعته وعمقه ومحتواه ورسائله الايمانية الكبيرة والعميقة، التي أظهرت لنا صراع الانسان مع صمت الخالق طيلة حياته، هذا الصمت الذي يراه بعض الناس أحاديث وحوارات، في حين يراه البعض الآخر صمتًا مخيفًا ومرعبًا. المشهد الأخير من هذه التحفه كان قمة في الروعة عندما كَبُر الراهب الشاب وتحضرت المراسيم البوذيه لدفنه، كانوا وقتها يُدخلون الانسان داخل برميل كبير ويشعلون تحته النار لحرق الجثة، تقترب عدسة “سكورسيزي” من البرميل وتدخل فيه ليظهر الراهب متشابك الايدي ومتربعًا في قاعه، فتقترب الكاميرا أكثر فأكثر من يديه ، فنرى صليبًا صغيرًا بين يدي الراهب محتفظًا به. هذا الصليب علامة على تمسّك الراهب بإيمانه ومسيحيته للنفس الأخير في حياته، وكأنه يقول بأن الإله يبحث داخلنا قبل ظاهرنا ، حتى وإن كان في وقت من الاوقات قد تخلى عن المسيح ونكره كما نكره بطرس ثلاث مرات قبل صياح الديك، فهو يعرف أحق المعرفه بأن الرب متسامح وغفور وقريب من ثقيلي الأحمال ومن كسيري القلوب اكثر مما نتخيل. وكم من أناس قد تكلموا مع صمت الرب داخلهم واحتفظوا بايمانهم سرًا، ليبقى الايمان من أعمق اسرار النفس البشرية.

هوامش :
★ تبادل النجمان (دانيال داي لويس) و(ليام نيسون) أدوارهما في مشروعين مختلفين، حيث كان من المخطط أن يقوم نيسون بدور (ابراهام لينكولن) في فيلم (Lincoln)، بينما يقوم لويس بدور (الأب فيريرا) في هذا الفيلم، لكن كل منهما أسقط دوره المُرشح له وقام بالدور الآخر.
★في الرواية أصرّ الكاتب (شوساكو إندو) بأنه استوحى قصته من فيلم (La Strada)  للمخرج الإيطالي الشهير (فيديركو فيلليني)، ولا سيما شخصية (Kichijiro)  بالرواية.
★صرّح (مارتن سكورسيزي) بأنه قرأ الرواية أكثر من مرة عبر السنوات.
★أنهى المخرج (مارتن سكورسيزي) والسيناريست (جاي كوكس) كتابة النسخة المبكرة من نص الفيلم في التسعينيات، وعقد (سكورسيزي) نيته بأن يخرج الفيلم عقب فيلم (Gangs of New York) عام 2002، لكن عندما تعذّر عليه الحصول على التمويل الكافي لإنتاج الفيلم قام بإرجاء إخراج الفيلم وبدأ العمل على فيلمه (The Aviator) الذي صدر عام 2004 .

Leave a Comment