الدكتور زهير هواري*
صبيحة يوم الثاني والعشرين من شهر آذار الفائت نشر الزميل والصديق غسان شربل رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط مقالاً عنوانه “الأيام التي تركت بصماتها”، وأضفنا للعنوان بعد استئذان الكاتب عبارة “على لسان محسن ابراهيم” في موقع ” بيروت الحرية”. صدر العدد صباح يوم الأثنين، وبعد ظهر اليوم المذكور إنفجرت الأزمة السياسية الكامنة بين رئيسي الجمهورية ميشال عون، والمكلف بتشكيل الحكومة سعد الحريري، وهي ما تزال متواصلة فصولاً. قد تكون الأمور حدثت بفعل المصادفة. لكن المتمعن بالحديث مع أبو خالد الذي مضت سنوات على تاريخ نشر الحديث يقرأ فيه تلك اللحظة، والآتي في غيب الأيام. لم يتحدث في المادة المنشورة عن علاقته بالرئيس عبد الناصر أو ياسر عرفات أو كمال جنبلاط، أو عن ذاكرته التي تتسع للمساحات الممتدة بين عدن والجزائر. باعتبار أن الأشرطة التي سجل عليها الاحاديث استعادها محسن منه، واعداً بإعادتها لصاحبها حالما “تسنح الظروف”. المهم أن ابراهيم تحدث عن أيام أصعب قادمة، وأن عدد القوى التي تؤمن بلغة العنف يتزايد. وأن ثقافة الاغتيال عربياً تتجذر، بدليل أن زعامة المعلم كمال جنبلاط اللبنانية العربية والدولية والأممية لم تنقذه من القتل، وكذلك بشير الجميل على صعيد أخرى. يقف محسن ابراهيم أمام حدث اغتيال رفيق الحريري كمحطة فارقة وأخطر مما سبقها، لأن هدفها كان نقل لبنان إلى موقع مخالف لما كان عليه. وصف ابراهيم غزو العراق بأنه كان بمثابة فرصة تاريخية وفرت لإيران التدفق في الاقليم.. والآن تدفع أجزاء واسعة من الوطن العربي ثمن شطب العراق من المعادلة.. هناك أيضاً كلام حول رئاسة عون كمشروع مشكلة وليس كرئيس للحل. حصل عون على الرئاسة من حزب الله، فغض الطرف عن سلاحه ومفاعيل مشروعه على الداخل والاقليم . ينتهي ابراهيم ولمناسبة الحديث عن ثقافة الاغتيال بالقول “هناك من يُغتال بسبب حاضره، وهناك من يُغتال بسبب مستقبله، وهناك من يُغتال بسبب ماضيه”.. يختم شربل بالقول: ” تلك أيام تركت بصماتها على مصائر شعوب وأفراد وخرائط”. شعوب بأمها وأبيها وأفراد وجماعات وخرائط دول لها حدود واعلام وأناشيد وسلطات. منذ أيام فقط توقفت الحرب الاسرائيلية المدمرة على قطاع غزة، بينما المستوطنين يصرون على استهداف المسجد الأقصى وكنيسة القيامة وكل معلم أو رمز فلسطيني اسلامياً كان أو مسيحياً. وبالطبع ما زال الفلسطينيون ككتلة بشرية ترفض مصيراً كمصير الهنود الحمر كما قال محمود درويش سواء في الضفة أو اراضي العام 1948 أو قطاع غزة، ناهيك بدول الشتات. وبقدر ما كان محسن ابراهيم لبنانيا كان فلسطينياً وعربياً وأممياً. لم يحد يوماً عن رؤية أبرة البوصلة وهي تتجه نحو فلسطين والصراع مع العدو الصهيوني. صراع يدخل هذه الأيام منعطفات بالغة الخطورة مع تمزق المنطقة، وعودتها إلى مكوناتها الأثنية والطائفية والعشائرية والمناطقية والطائفية. كان محسن ابراهيم يرى في فلسطين الأصل الذي لا بد من العودة إليه للجم عملية تمزيق المجتمعات العربية. الآن المجتمعات العربية ممزقة وفلسطين تقاتل باللحم الحي آلة حرب ودعم عاتية و..
ومحسن ابراهيم الذي غادرنا قبل عام، وينظم موقع ” بيروت الحرية ” ما يشبه تظاهرة سياسية ثقافية تستعيد بعضه على أقلام رفاق وأصدقاء وعارفين، لم يكن متنبئاً، ولا يجيد قراءة الأبراج وكف الوقائع، لكنه بثقافته وخبرته السياسية الموسوعية ومعرفته الدقيقة بتفاصيل المنطقة وتراكيبها وتناقضاتها التي جالها طولاً وعرضاً، مع فكر ونظرة ثاقبين، استطاع دوماً أن يتحدث عن المستقبل، وكأنه يرى وقائعه رأي العين. لذلك استعاده غسان شربل ليتحدث عن هذا التصحر اللبناني والعربي الذي يطيح بكل مقومات المنطقة العربية، بينما تقف الأنظمة عاجزة عن التأثير أو دفع الغوائل أو الحفاظ على الحد الأدنى من استمرارية كياناتها. دول وكيانات من ورق تتهاوى تحت وطأة تناقضات الداخل، واجتياحات الخارج وتمترسه في قلب جغرافيتها وسط حال من التسليم مقابل البقاء في سُدة السلطة، وكأن هذا الواقع لا خلاص منه ولا مهرب.
أخذ الكثيرون على أبو خالد صمته ، وكان الرجل يدرك ليس المخاطر التي تحيط بشخصه، بل توزانات القوى ويعرف جيداً أصول الصراع ، وكيف يخاض وبمن يصارع. والمفارق أنه كان الأكثر حديثاً في داخل منظمته، منظمة العمل الشيوعي في ما ظنه الآخرون سكوتاً عن الخطايا والجرائم التي تُرتكب. وعندما كان يخرج إلى العلن ويزن كلماته بميزان الذهب كما فعل في أربعين رفيق عمره جورج حاوي، عبَرَت جمله المسبوكة في فضاء فارغ من النبض. لكنه أوصل رسالته التي لم يقرأها الكثيرون. أما الذين قرأوها وكانوا قلة فرأوا أنها كلمات تأتي من زمن بعيد مضى ولن يرجع.
الآن يقف اللبنانيون ومعهم العرب، كل العرب. وفي موقع الأولوية الفلسطينيون والسوريون واليمنيون والعراقيون… أمام الاستحقاقات المريرة وهم يرون كياناتهم تتهشم، وبلادهم تتمزق وتعود إلى ربوعها جحافل الجيوش الايرانية والتركية والروسية والاميركية، ومنوعات الميليشيات التي تأتمر فتطيع ما يصدر إليها من أوامر وتعليمات… أكثر من ذلك جرى تدمير الجزء الأكبر من مقدرات المنطقة بما فيه حضاراتها الغاربة ومعالم ثقافتها المادية والروحية. وها هي الملايين تقف الآن على حد سكين التشرد والجوع والفقر والعوز، ولا ملجأ لها سوى مساعدات المنظمات الأممية تطعمها خبزها اليومي فتعتاش عليه…
محسن ابراهيم كان يرى بذكائه اللامع واستشرافه العميق المآلات التي تندفع نحوها بلادنا العربية، ولم يكن بيده سيفاً سحرياً أو عصا موسى يقلب فيها الأوضاع راساً على عقب، ويستعيد وضع الهرم على قاعدته. مع ذلك لم يهادن ولم يتملق ولم يزحف نحو عنجر أو غير عنجر.. آثر الصمت حيناً، وعندما تحدث خلَّف لنا تراثاً زاخراً. نساءل أنفسنا دوماً هل نستطيع النهوض بأحماله، وتحويله إلى فعل نضال مرير في زمن القحط والجفاف القاتل ؟؟.
والسؤال يتعدانا كرفاق في المنظمة التي أسس، ليطال المنطقة العربية وقواها الديموقراطية والتقدمية النابضة أمام تحديات لا تتوقف عند الاندفاع كسيل جارف يكتسح ما يعترض طريقه من بُنى وهياكل ومنظومات.. غادرنا محسن ابراهيم وما زال يلقي في وجوهنا أسئلة الواقع الصعب ولا نقول المستحيل. فكيف نجيب ونحن مجردون من فحصه المتكرر لماضي يخنقنا، وتغيب مع غيابه رؤيوته اللماحة للمستقبل الذي نطمح إليه. موقع “بيروت الحرية” إذ يفتح قلبه وصفحاته لمساهمات الأصدقاء والرفاق ليعبروا كما يريدون عن رؤيتهم له، وعن التجربة المستقاة مع ممارساتهم معه قائداً ورفيق نضال، تعاهدهم على البقاء وفية للعقل النقدي المستنير الذي حمله طوال سني عمره الزاخرة باعتبار ذلك ذخراً ثميناً للأيام الآتية.
*أكاديمي وباحث وروائي، عضو قيادة في منظمة العمل الشيوعي في لبنان
Leave a Comment