محسن إبراهيم

عن محسن إبراهيم “ابو خالد” في ذكرى غيابه

بلال خبيز*

بعض الكبار يتعملقون حتى في غيابهم. خصوصا حين تكون الأزمات التي يعايشها بلد ما طاحنة إلى الحد الذي نشهده في لبنان ومحيطه. ومع أن الأزمات، في أصلها وأساسها هي عبارة مسارات تاريخية، بمعنى أن سلوك الأفراد والجماعات لا يرد غائلتها، أقله في معظم الحالات. إلا أن وجود أشخاص على قدر كبير من المعرفة وسعة الإطلاع التاريخية والفكرية، كما كان شأن محسن إبراهيم، قد يتيح لأفراد وجماعات أن تشق طريقا، ضيقة ربما، في مسار الخروج من الأزمة

في التسعينيات وبدايات العقد الأول من القرن الماضي، كنت غالبا ما أواجه بسؤال من مشتغلين بالشأن العام حول جدوى سلوك محسن إبراهيم الذي أفضى إلى الانسحاب من شؤون السياسة اليومية والتزام الصمت حيال معظم السجالات اليومية. وإصراره على إجراء مراجعة لتجربة منظمة العمل الشيوعي والحركة الوطنية، قبل الحرب الأهلية وخلالها وبعدها.

بعض المعترضين على هذا الاعتكاف المديد، كانوا يركزون اعتراضهم على لا جدوى مراجعة المنظمة لطبيعة التزامها بالماركسية. باعتبار أن الأولى والأجدى هو مراجعة تجربة الحرب، وترك النظرية على حالها من الثبات. هذا الاعتراض كان يخفي استسهالاً طائشاً بعملية النقد الواجبة على كل المشتغلين بالشأن العام اللبناني منذ عقود. ذلك أن استسهال الاشتغال بالسياسة اليومية من دون تحضير نظري كان يعني، وهذا ما نختبره اليوم جيداً، أن نحسب أن استلام السلطة كفيل وحده بإعادة تشكيل الاجتماع العلماني الديمقراطي، ودفع الاقتصاد إلى الازدهار من تلقاء نفسه، وتعيين حدود التدخلات الخارجية سلباً وإيجاباً على نحو يضمن استقلال البلد وسيادة دولته على أهله وأراضيه.

البعض الآخر كان لا يرى سبباً لهذا الجهد المضني الذي يبذله الراحل، في استقراء مسارات الديموقراطيات الحديثة والقديمة. كان الظن عند معظم نخبة البلد، وربما لا يزال حتى اللحظة، أن الديموقراطية وصفة سهلة، ويكفي أن نجري انتخابات حرة وفق قانون انتخابات عادل، لتتحقق الديمقراطية ويولد المواطن وتولد الدولة الجامعة.

في كتابه “قضايا نظرية وسياسية” يلقي محسن إبراهيم ضوءاً كاشفاً على البنية اللبنانية الطائفية، ولا يستسهل التقرير بأن الانتماء الطائفي في لبنان هو مجرد انتماء ديني أهلي. بل يؤكد أن كل طائفة من الطوائف التي يتشكل منها البلد لها خصائص علمانية يصعب الفكاك منها. فالشيعة يقطنون على تخوم حرب البلد وسلمه مع العدو الإسرائيلي. وتالياً فإنهم معنيون أكثر من غيرهم بطبيعة السياسات التي يختبرها البلد حيال هذا الملف. والسنة يتحكمون عمليا بأساسيات اقتصاده، بوصفهم سكان المدن الكبرى، والأوطان (الحديثة) تنتظم حول مدنها، وهي أي المدن ما يحدد دورها داخلياً وخارجياً. والموارنة يتحكمون بعلاقاته الخارجية (المجدية). ويشكلون على نحو ما الدياسبورا الأكثر فاعلية بين الفئات الأخرى من المهاجرين من باقي الطوائف. وفي بلد صغير كلبنان يعني هذا الأمر الكثير، ويجدر الانتباه لأهميته في كل وقت. وما تقدم على سبيل المثال لا الحصر، يوضح أن الرابطة الطائفية هي رابطة تجاور جغرافي أولاً، وهي رابطة مصالح ومعاناة مشتركة، وهي رابطة متصلة بالاقتصاد في الوقت نفسه ومؤثرة فيه سلباً وإيجاباً. وأول ما تنفيه هذه الوقائع الآنفة الذكر هو التبسيط اليساري السائد منذ عشرينيات القرن الماضي، والذي لم ينفك يطل برأسه المشوه كل حين، وهو القاضي بأن القضاء على الطائفية في لبنان مرهون بتطور التعليم وازدهار ثقافة الفرد والمواطن.

ما أسلفت كتابته يحاول القول، إن تأسيس حزب سياسي له مستقبل في أي بلد في العالم وليس في لبنان وحسب، يشترط قراءة متنورة في تركيبة البلاد ليتبين أهل هذا الحزب وأعضاؤه ومناصروه مواقع أقدامهم في الاجتماع، وقدرتهم على مخاطبة من ينطقون باسمهم ويدعون تمثيل مصالحهم. فحين يقرر الحزب، أي حزب، كما حدث عشية الحرب الأهلية، أن سياسته العامة تقضي بفتح البلد، على مصراعي سيادته وأمنه، أمام العمل الفلسطيني المسلح، فإنه بذلك يحذف أجزاء واسعة من البلاد من قائمة الذين يمكنه مخاطبة مصالحهم. مثلما أنه سيصطدم حكماً باعتراض شيعي على سياساته، بوصف أهل هذه الطائفة يتضررون ويستفيدون بشكل مباشر من موجبات هذا العمل المسلح وتداعياته على أمنهم واقتصادهم ومستقبلهم.

ولو افترضنا أن هذا الحزب يناصر الفئات الأكثر حرمانا من جنة الدولة، لوجد نفسه في مواجهة مناطق جغرافية كاملة كانت إلى هذا الحد أو ذاك مستفيدة من طبيعة النظام الاقتصادي القائم ، ومن الدور الذي يضطلع به البلد عموما. بطبيعة الحال، لا يجدر بحزب سياسي أن يمثل كل فئات الشعب، وعليه أن يكتفي ببعضها ليتنطح لتمثيل مصالحها. وفي بلد كلبنان، مقسوم على نحو عامودي وأفقي في الوقت نفسه، فإن الحديث عن حزب طبقة عاملة يعني أن هذا الحزب نظرياً ألغى كل حقوقه بتمثيل فلاحي الأرياف، وتجار المدن وتكنوقراطها. والحال، كان أمر مراجعة النظرية الهادية، وهي الماركسية في حالة المنظمة، ضرورياً ضرورة ملحة. فليس ثمة طبقة عاملة متماسكة يمكن القول إنها تعبر كل الطوائف والمناطق، والحال تنطبق على كل الفئات والطبقات والجماعات التي يتشكل منها اجتماع البلد وتنتظم حولها سياسته.

ثم، ثمة أمر آخر أود الإشارة إليه في هذا السياق، وهو أمر أنا مدين لمحسن إبراهيم بمقاربته أولاً. هذا الأمر متعلق بطبيعة الانتماء إلى اليسار، وما يرتب هذا الانتماء من أعباء على حامله والمنتظم فيه. في فكر اليسار الذي حكم معظم عقود القرن الماضي، كان أمر التوزيع العادل للثروة هو الأساس المكين الذي تنتظم عليه أحزب اليسار. والحق، إن هذا المعطى يبدو اليوم قاصراً أيما قصور. فالمشتغل بالشأن العام اليوم، لا تنحصر مهمته بتوزيع الثروة، بل عليه المساهمة مساهمة فاعلة في تحصيل هذه الثروة. خصوصا في عالم تتغير معطيات اقتصاده بسرعة هائلة. وعليه، لا يفترض أن تكون مهمة اليساري أن يوزع الثروة على نحو عادل، بل أن يبحث في السبل الكفيلة لاستمرار الاقتصاد مزدهراً، وأن يبتكر دوراً له في صناعة هذا الاقتصاد على نحو يصبح معه فئة لا غنى عنها في المجتمع.

هل يمكن أن يدعي يساريو اليوم في لبنان أنهم فئة لا غنى عنها في المجتمع؟ أجزم أن أحداً منهم لا يجرؤ على ادعاء كهذا. وعدم الجرأة هذا معبر ببلاغة عن مستقبل هذا اليسار وعلمانيي البلد على حد سواء. هذه الأسئلة وكثير غيرها هي بعض مما طرحه الراحل، ولم يحصل أن طرفاً أو حزباً أو فئة حاول امتشاقها جديا والإجابة عنها. ومن دون استعادة هذه الأسئلة وطرحها على نحو جدي والالتزام بمحاولة الإجابة عليها، لا أظن أن البلد يمكن أن تقوم له قائمة.

*صحافي وكاتب سياسي لبناني

Leave a Comment