محسن إبراهيم

محسن إيراهيم فسحة بين أسرارنا وأحلامنا

بول أشقر*

الابتسامة تحت الضحكة…

1972 فندق بوريفاج… إطلاق الجبهة العربية لمساندة الشعب الفلسطيني… عمري 19 سنة، وأنا أقف إلى جانب المثقف الماركسي المصري لطفي الخولي كما كان يقال. كنت تعرفت إليه لأنه زوج أخت صديقة. يتحدث مع  رجل صغير القامة ويعرفني إليه: محسن إبراهيم. ضحكت في عبي. بالنسبة إلينا، شلّة يسارية صغيرة (سأنضم إلى منظمة العمل الشيوعي  بعد أشهر)، محسن إبراهيم هو هذه علامة الاستفهام التي تغطي من الأعلى إلى الأسفل غلاف كتاب “لماذا منظمة الاشتراكيين اللبنانيين؟”، حتى أننا كنا نسمي منظمة الاشتراكيين “منظمة لماذا؟”…  اقترب من الجَمعة كمال جنبلاط. لا أعتقد أنني تجرأت بالنطق بأي كلمة، لكني أتذكر تماماً كيف أمسك بشعري (وكان طويلاً طويلاً كما تقتضي الموضة اليسارية أيامها)، وقال لي بنبرة موبخة “هيئتك بتفهم، ليش عامل بحالك هيك؟”. تضاعف خجلي، خصوصاً عندما تحركت الضحكة في وجه محسن أيراهيم. خَرجت من عينين هادئتين وثاقبين، تحولتا إلى “كتلتين” صاخبتين اجتاحتا كل معالم وجهه لتوحِده في ضحكة من الصعب مقاومتها عنده وعند الباقين. وراح محسن إبراهيم، كلما التقينا، في السنوات التالية، يكرّر كلمات جنبلاط “هيئتك بتفهم، ليش عامل بحالك هيك؟”… وكنا ننفجر بالضحك. ثم أتت الحرب (وأنا لم أبقَ في المنظمة إلا لأشهر إضافية) وإنشغل أبو خالد، ولم أعد ألتقي به إلا في منزل عديلي فواز طرابلسي في بيروت، أو في باريس. المرة الأخيرة، كانت قبل ثماني سنوات، في العيد الخمسين لجريدة “السفير”، وكان الرجل يتعافى بعد مرض بدا وكأنه أرهق جسمه الذي صغر. ولكن الضحكة التي كانت مستنفرة في عينيه قد صارت بسمة حنونة مطبوعة على وجهه.

الفرد وراء الثلاثي…

شارك محسن إبراهيم في كل حقبات العمل القومي العربي بشكل موازٍ لصعود الناصرية بداية ثم تحت جناحها. وكان له مساهماته المتنوعة في النضال التحرري اليمني، تارة لتقريب التوجهات بين المجموعات وطوراً بين النظام الناصري والقضية اليمنية. أما دوره في فلسطين ولبنان، فغني عن القول… كان محسن إبراهيم يعرف كيفية المشاركة أو التقدم بين الثنائي والثلاثي في لبنان أو خارجه… ثلاثي مع جورج حبش وهاني الهندي في حركة القوميين العرب… ثلاثي مع نايف حواتمة وعبد الفتاح إسماعيل في الحركة نفسها حول مجلة “الحرية” وفي الخط اليساري… ثم في لبنان، ثلاثي مع محمد كشلي وحكمت العيد في منظمة الاشتراكيين اللبنانيين… ثم مع فواز طرابلسي وحكمت العيد في منظمة العمل الشيوعي… وأخيراً، الثنائي مع جورج حاوي الذي ولد سردية تاريخية بسبب دور اليسار في الحركة الوطنية بداية وفي إطلاق المقاومة الوطنية عام 1982، وبشكل أعم في التحالف الميداني السياسي الذي ربط الحركة الوطنية بالمقاومة الفلسطينية. أعتقد أن لا أحد أكثر من محسن إبراهيم- بذكائه الحاد- كان يدري أهمية هذه الهندسات في تحقيق نتائج ملموسة وفي إعطائه المجال للعب دوره متكاملاً، وهو دور مليء بالبراغماتية الأنيسة القادرة على الاستماع بداية، وعلى تفهّم حاجات المحاور قبل الانتقال إلى المشورة. لا أفرّط بسر، وأصلا ما عدت اتذكر من أفشاه لي، ولكن تحوم حول شخصه أحاديث من نوع “اللبناني الوحيد الذي كان يدخل على عبد الناصر من دون موعد مسبق” أو “محط ثقة كمال جنبلاط الأوحد” أو “سفير فلسطين السري بعد خروج ياسر عرفات من لبنان”. وإن كان من مبالغة في هذه الأحاديث، فننسبها إلى الرواة المجهولين.

ذهاب إياب

لم يكن أبو خالد منظّراً سياسياً، ولكنه كان يحب عالم الأفكار ويسعى دائماً ليحيط به ويلبسه. لم يكتب أبو خالد الكتاب، ولكنه كان يعرف كيف يعلّمه، وكان يحب الجرأة في المراجعة والذهاب بعيداً بها، وهو دائماً مستعد لإعطاء طابع المرجعية، لمن يقوم/ يقومون بها، خصوصاً بعد الإنقسام داخل حركة القوميين العرب. بعدما تأكد “المتمركسون الجدد” من وجود المقاومة الفلسطينية، جردوا جذور حركة القوميين العرب بقسوة المتدينين الجدد: من الفاشية إلى الناصرية. هذا هو العنوان الفرعي لكتاب “لماذا؟”. وهم بالفعل (وبالجمع) كانوا يخرجون من الناصرية- باعتبارها القومية العربية المحققة- من دون أن يغيروا كلمة عما قالوه عن الاتحاد السوفياتي (وقتها لم تكن الماركسية المحققة، وكانوا يتأقلمون مع وجود الصين وكوبا وفيتنام ومع هذه الخلطة). أما منظمة العمل الشيوعي، وكانت قد عانت سريعاً إنشقاقاً لم يكن عقائدياً (بالرغم من تلوينات ماوية)، بل كان يدور حول نوعية الإطار السياسي المطلوب. وسرعان ما حسمت الحرب ومقدماتها الخلافات الفكرية وتعطلت البرامج التثقيفية لمصلحة دورات التدريب العسكري التي حولت الشلل في لحظة إلى أحزاب صغيرة، والأحزاب الصغيرة إلى أحزاب كبيرة. وأمتدت الحرب، وأبو خالد أول من تفهّم ما الذي تغير مع خروج أبو عمار من لبنان. أما بعد الحرب والطائف والهيمنة السورية، فقد حان وقت إقفال المنبر الذي فتحه عند تبني الماركسية. “في الاشتراكية” (1993) هو ذلك بالذات: نقد الماركسية، من ماركس إلى لينين إلى الأممية الثالثة (ستالين وما بعده). كما قال محسن إبراهيم على غلافه، بعد تأبين الشهيد الفكري، لم يبق لدينا لـ”تحديد وتجديد نظرتنا إلا مصدرين أساسيين (…) أزمة الرأسمالية كنظام إقتصادي وأزمة الديموقراطية كنظام سياسي”.

كلمتان لجورج

لكل عهد حقيقته. صار (وهذا ظلم) يُختصر محسن إبراهيم بصمته، وبكلمته في تأبين جورج حاوي حيث أضاء على خطأين ارتكبتهما الحركة الوطنية: استسهال الحرب الأهلية معبراً للتغيير الديموقراطي، وإباحة  لبنان للمقاومة الفلسطينية وتحميله فوق طاقته. إنه أعمق نقد لأداء الحركة الوطنية خلال الحرب. ومحسن إبراهيم- الخارج من صمته لمواجهة وفاة شريكه ولو من قبل فترة- يستطيع أن يقوله لأن نسيج ما تبقى من منظمة العمل الشيوعي- المعطلة أصلاً آنذاك- متجانس أكثر من “تنوع” الحزب الشيوعي. كلاهما استسهل الحرب وحمّل لبنان فوق طاقته، ولكن من ترجم خط الحركة الوطنية في الحزب هو جورج ورفافه. ومن أجل ذلك، دفع الحزب الشيوعي أثماناً في مناطق ومواقع كان اخترقها منذ فترة فرج الله الحلو، ولم (لن) يستعيدها من بعد. كما أن همّ إعادة صياغة قصتنا مع فلسطين- حتى على حساب لبنان- كان هماَ شيوعياً وجودياً له جذوره التاريخية. ليس صدفة أو سوء نية أو كسلاً ذهنياً عجز الحزب الشيوعي عن قراءة نقدية لأدائه في الحرب. إنه ناتج أيضاً من تنوع صحي أصلاً، عمّقه ثم أفسده طول الحرب، “ربى اللحم” كما يقال. ثم الشيوعيون- يجب عدم نسيانه- ماتوا في حقبات مختلفة في مواقع متناقضة ليس من اليسير ترتيبها. لمعالجة هذه الأخطاء، كان أبو أنيس مستعداً للذهاب أبعد من محسن إيراهيم، لكنه لم يكن قادراً على كتابة هاتين الجملتين في أي دفتر… فأهل المنظمة ذهبوا معاً إلى الحرب وعادوا منها معاً. أما الشيوعيون، فأكثريتهم ذهبت، ولكن قلة لم تذهب. ومن الذين ذهبوا، البعض أضاع نفسه في الطريق، والبعض ذهب إلى أماكن مختلفة وتأقلم مع المحيط المتنوع أصلاً بعدما استنفد القدرة على تغييره.

*باحث وصحافي وناشط اجتماعي ومنسق حملة “حقنا نعرف”

Leave a Comment