محسن إبراهيم

بحثاً عن طريق التغيير الديمقراطي وإشكالياته

حسام عيتاني*

ليس في هذه السطور ذكريات شخصية عن محسن ابراهيم. فلم يُقيّد للكاتب سوى لقاء يتيم معه سنة 2005، ذلك العام العاصف الذي دخل لبنان في أثنائه أزمة عامة ما زالت تتوالى فصولها وتتفاقم إلى اليوم.

هذه العجالة هي مساهمة متواضعة في نقاش ظروف التغيير الوطني وإمكانه وسبل الخروج من الكارثة الاقتصادية والسياسية التي يتخبط وطننا فيها منذ عام ونيّف. نقاش يستمد ضرورته من وصول لعبة تقاسم السلطة الطائفية للغنائم والأسلاب إلى إفلاس لا قعر له، يقابله وبالقدر ذاته من المأساوية، ربما عجز القوى البديلة (لنستخدم هذا المصطلح اختصاراً لتعريفات كثيرة) عن التشكل وانتاج خطابها وممارستها وافراز قياداتها وشخصياتها، والانتقال بالتالي إلى العمل السياسي المنافس لقوى السلطة الطائفية، والمنطوي على قدرات اللبنانيين على التخلص من ربقة تقسيمهم المفتعل، وإفقارهم الذي جرى عن صابق تصور وتصميم.

غني عن البيان أن “أبا خالد” كرّس القسم الأكبر من حياته السياسية للتغيير الديمقراطي إلى جانب القضية الفلسطينية، مدركاً الترابط الجدلي بين الجانبين الداخلي والعربي، واستحالة تحقيق تقدم في أي منهما، أو اصابته برضّة تكاد تكون قاتلة مثل هذه التي نكابدها، من دون أن يكون لذلك انعكاسات على الجانب الثاني. لكن ضيق المجال يحملنا على الانصراف إلى تأمل في المسألة الوطنية نظراً إلى تعمّق أزماتها وتداخل مسبباتها ومظاهرها.

ومع الأخذ في الحسبان كل المآخذ التي قدمتها قوى اليسار اللبناني على النموذج الاقتصادي- السياسي اللبناني منذ الاستقلال، والتي لم تتغير بعد نهاية الحرب الأهلية، بل جرى العمل على تجذيرها على نحو أفقد لبنان فرصة بناء اقتصاد أقرب إلى الانتاج والمناعة حيال التبدلات العاصفة في المنطقة، فإن الشلل الكلّي الذي أصاب النظام السياسي يفرض السؤال عن ادوار وأحجام قوى التغيير، خصوصاً بعد التظاهرات الحاشدة التي شهدتها المدن اللبنانية منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الاول 2019.

ثمة أحجية تبدو غير قابلة للتفسير بين نضوج ظروف التغيير، وبين غياب قواه وأدواته. ذلك أن المتضررين من الكارثة الحالية زادوا عن نصف عدد المواطنين. يضاف إليهم لاجئون سوريون وفلسطينيون وعمال أجانب تأثروا سلباً بالانهيار الحالي. من جهة ثانية، تكبح الجماعة السياسية الحاكمة من خلال أدوات عدة تتنوع بين الرشى العينية كالمواد الغذائية والأموال النقدية، وبين خطاب الكراهية وتخويف ابناء الطوائف المختلفة من بعضهم البعض، تكبح تشكل كتلة سياسية تكون مصلحتها ومستقبل ابنائها هي الدافع إلى الانخراط في عمل تغييري ديمقراطي وسلمي. ولا يخفى على أي مراقب سهولة التهويل بالحرب الطائفية وبالتناحر الأهلي الذي تلجأ إليه كل اطراف السلطة، عندما تلمس أن تحركات الشارع بدأت تخرج عن سيطرتها وإملاءاتها.

قابلية النظام السياسي للتكيف مع رغبات أطراف التحالف الحاكم تشير إلى هشاشة الأسس التي تحمل الدولة. ليس فقط كمؤسسات وقوانين وإجماعات وطنية أو عقد اجتماعي، بل أيضاً كمشروع يفتقر إلى مؤيدين ومناضلين من أجله، أو إلى “عصب” يشد اطرافه إلى بعضها. علّة ذلك أن خلافات اللبنانيين التي كان يقال إنها مفيدة للحياة الديمقراطية في البلاد، قد تجاوزت ما يجوز أن يبقى ضمن التوافق الوطني المؤسِّس للدولة. وباتت مسائل مثل احتكار العنف وتجاور اقتصادات عدة، شرعية ورمادية وسوداء، في دورات مستقلة عن بعضها، ناهيك عن تفتت المؤسسات التعليمية وتوزع المناهج فيها على مشارب دينية وايديولوجية كثيرة، من الأمور التي تغذي “جماهير” ذات هواجس وتطلعات وآمال مختلفة، ولا توحدها فكرة المصلحة العامة أو الوطن، ولا بطبيعة الحال الدولة.

عند هذا المستوى من الانهيار الذي يجعل البحث عن شركاء في مشروع التغيير والتقدم الديمقراطي السلمي، بحثاً عن “خلٍّ وفيّ”. وحيث صار السعي إلى توحيد المواطنين يلاقي لعنة الطوائف وأنصارها، لا بد من الالتفات إلى ما كان يحمل محسن ابراهيم على التمسك بضرورات الخروج من المتاهات الطائفية والانغلاق كممر اجباري لبناء الوطن.

*صحافي وباحث وكاتب لبناني

Leave a Comment