نايف حواتمة*
عندما أستعيد شريط الذكريات الحافل بالأحداث السياسية الكبرى، بحلوها ومرها، يحضر الرفيق والصديق محسن إبراهيم، وقد تشاركنا خندق النضال الواحد زمنا ً طويلاً، وبقينا على تواصل دائم وحميم إلى أن رحل دون أن يغادرنا.
جمعتنا والصديق أبو خالد التوافقات الفكرية الكبرى، التي تشاركنا في بلورتها، في تطوير الفكر النضالي العربي، في أعقاب الأحداث الكبرى التي شهدتها منطقتنا والنتائج التي انتهت إليها الأحداث السياسية، ومنها تجربة الوحدة العربية والانفصال في 28/9/ 1964، وهزيمة حزيران (يونيو)67. وأدركنا باكراً عجز المشروع القومي، وفي غياب الحزب الثوري القائد، عن إنجاز وتحقيق أهداف مرحلة التحرر الوطني في عدد من الدول العربية الشقيقة، كاليمن في الجنوب، أو إنجاز أهداف الثورة الديمقراطية، كما هو حال جميع أقطارنا العربي، وقد بقيت قضية فلسطين باعتبارها محور العملية النضالية لحركة التحرر العربية.
وبحسنا الثوري، ومراجعتنا المعمقة لتجاربنا النضالية، في المنطقة العربية، وتعمقنا في قراءة تجارب الشعوب، خاصة في آسيا وإفريقيا وأميركا اللاتينية، عملنا على بناء التيار الديمقراطي العريض في صفوف الحركة القومية العربية، امتدت آثاره من شواطئ المحيط الأطلسي في المغرب وموريتانيا، إلى ضفاف الخليج في العراق والكويت والبحرين وباقي المشيخات العربية على شواطئ بحر عمان .
هكذا نجحنا، وصف عريض من الرفاق، في إطلاق أوسع عملية تثوير للحركة القومية العربية، والتي أفرزت عدداً كبيرا من الأحزاب والقوى اليسارية العربية، من أبرزها، كما هو معروف، الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، ومنظمة العمل الشيوعي في لبنان، والحزب الاشتراكي اليمني، صاحب التجربة في إقامة أول نظام يساري في المنطقة العربية، يتبنى الاشتراكية العلمية.
شقت الجبهة الديمقراطية طريقها في ساحة النضال الوطني الفلسطيني، واحتلت سريعاً مكانتها المتقدمة في م.ت.ف، وأبدعت البرنامج المرحلي، الذي عمدته بدماء الشهداء المناضلين، إلى أن ارتقى ليصبح هو البرنامج الوطني لعموم الشعب الفلسطيني وحركته الوطنية. وليعيد القضية الفلسطينية إلى مكانتها الدولية، قضية حركة تحرر، ولشعب حي، ضد الاحتلال والاستعمار الصهيوني ونظام التمييز العنصري، وبشعب له الحق الكامل في تقرير مصيره على أرضه في العودة والاستقلال.
كما شقت منظمة العمل الشيوعي طريقها، ونجحت، بقيادة الرفيق والصديق محسن، أن تستقطب الصف الواسع من المثقفين الثوريين، وأن تحتل مكانتها في مقدمة الصفوف في الحركة الوطنية اللبنانية، بقيادة الراحل والصديق الكبير كمال جنبلاط، وأن تبني قواعدها الجماهيرية بين العمال والفلاحين والصف العريض من أصحاب الدخل المحدود وفي صفوف الحركة الطلابية.
وأبدعنا معاً في تحويل مجلة “الحرية” إلى «مجلة للتقدميين العرب»، تنشر الفكر التقدمي واليساري ومفاهيم الاشتراكية العلمية، تحفل صفحاتها بالمراجعات السياسية الكبرى لتجارب النضال العربي و الإقليمي والأممي. وأصبحت قبلة حركات التحرر الصديقة ومنبرها الشجاع في الدفاع عن مصالح الشعوب المظلومة، والمناضلة من أجل حريتها واستقلالها وخلاصها الوطني بقيادة أحزابها الثورية.
عندما أشعل الانعزاليون في لبنان حربهم ضد المناطق الوطنية اللبنانية والمخيمات الفلسطينية (حرب السنتين)، نجحنا في الجبهة الديمقراطية ومنظمة العمل الشيوعي، والحزب الشيوعي اللبناني، في تشكيل قوة يسارية مشتركة، قاتلت على جميع الجهات، دفاعا عن المشروعين الوطنيين، لشعب لبنان وشعب فلسطين، وقدمنا نموذجاً في أداء نضالي مميز نظراً لما تحلى به مقاتلونا، من الأحزاب الثلاثة، من وعي سياسي وطبقي، وخبرات عسكرية، قدمت القوة اليسارية في مقدمة الصفوف في تغليب المصالح الوطنية على المصالح الحزبية الضيقة، وفي أداء اتسم بالأخلاق الرفيعة الثورية، في ظل حرب أرادها البعض طائفية وهمجية، لتشويه نضالات الشعبين اللبناني والفلسطيني.
لم نكن، في الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين وفي منظمة العمل الشيوعي، حزباً موحداً كما خيل للكثيرين، بسبب التقارب الكبير الذي كان بيننا على الصعيد القيادي والقاعدي والجماهيري. كانت لكل منا رؤيته لقضيته، اتفقنا على الكثير، واختلفنا كذلك، دون أن ينجح الاختلاف في أن يباعد بيننا. كنا دائماً نعتبر أنفسنا في خندق النضال الواحد، مهما تقاربنا ومهما تباعدنا. كنا نغلب ضرورات الوحدة في الميدان على أية قضايا موضع خلاف. لذلك جمعتنا، على سبيل المثال، معاركنا في التصدي للغزو الإسرائيلي للبنان في أكثر من محطة، أبرزها محطة 1982، حين قاتلنا معاً على كافة محاور القتال، خاصة في الملحمة الكبرى لمدينة بيروت، التي استحقت، وعن جدارة، لقب عاصمة المقاومة العربية. وعندما خرجت قيادة منظمة التحرير من لبنان التقينا مرة أخرى تحت مظلة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) التي كان رفيقنا محسن أحد أبرز قادتها إلى جانب الرفيق الصديق جورج حاوي. وقدمنا الشهداء معاً إلى أن أرغمنا جيش العد و الإسرائيلي على الرحيل ذليلاً من لبنان .
ونحن نحيي الذكرى السنوية الأولى لرحيل الصديق والرفيق محسن إبراهيم يتوجب علينا، أن نقدم فيه ما يستحق من شهادة.
كان محسن إبراهيم مفكراً سياسياً بارعاً، وملماً بشكل عميق بملفات المنطقة العربية. أدرك حجم المسؤولية القومية والثورية الملقاة على عاتقه. فاحتل دوره على رأس منظمة العمل الشيوعي، في صفوف الحركة الوطنية اللبنانية، وأسهم في إغناء برنامجها للإصلاح الديمقراطي، ورسم توجهاتها النضالية، وتكتيكاتها السياسية في المراحل المختلفة.
كما كان علامة من علامات حركة التحرر العربية وحركة النضال الأممي، امتدت علاقاته في كل اتجاه، وتحمل مسؤوليات قيادية اثبتت مدى جدارته، جنباً إلى جنب مع كبار الحركة الوطنية اللبنانية، وكبار قادة منظمة التحرير الفلسطينية. وبقي وفيا للقضية الفلسطينية حتى اللحظة الأخيرة، نظر إليها باعتبارها قضيته الأولى، وهو اللبناني الأصيل، من الجنوب الذي أنبت المئات من كبار المفكرين والمصلحين والمناضلين، من أبرزهم بلا شك محسن إبراهيم. الذي رحل عنا، ولكنه لم يغادرنا، فهو باق بأفكاره وتجاربه، وفي الدور الذي يتوجب أن تقوم بأعبائه منظمة العمل الشيوعي.
*نايف حواتمة ـ الأمين العام للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
Leave a Comment