بعد تكرار الإعتداءات الإسرائيلية على منطقة الجنوب، واحتلال بعض القرى الحدودية، أُنشئ مجلس الجنوب عام 1970 بموجب مرسوم اشتراعي، بناءً على اقتراح رئيس مجلس الوزراء، وبعد قانون قضى بتعيين مجلس خاص معني بتلبية احتياجات الجنوب، يكون له الإستقلال المالي والإداري ويرتبط برئاسة مجلس الوزراء ولا تخضع أعماله لأحكام قانون المحاسبة العمومية ولا لرقابة ديوان المحاسبة المسبقة.
وكان للإمام موسى الصدر دورٌ كبيرٌ في إنشاء هذا المجلس، إذ بادر إثر العدوان الإسرائيلي عام ١٩٧٠، إلى دعوة الرؤساء الدينيين من مختلف الطوائف في الجنوب، وأسّس معهم “هيئة نُصرة الجنوب” التي تبنّت مطالب الإمام الصدر. وكان هدفها تعويض الجنوبيين عن أضرار الاعتداءات الإسرائيلية آنذاك، والإنفاق على مشاريع وخدمات إنمائية عامة في مناطق لبنان الجنوبي، كما ومنع نزوح أهالي الجنوب إلى مناطق أخرى وإبقائهم في أرضهم. ثم دعا الإمام الصدر إلى إضراب وطني سلمي شامل لمدة يوم واحد من أجل الجنوب، وتجاوب كل لبنان مع هذه الدعوة، واعتُبر حدثاً وطنياً كبيراً أدّى إلى عقد اجتماع مجلس النواب في مساء اليوم ذاته، ليقرّ تحت ضغط التعبئة العامة، مشروع القانون الذي يقضي بإنشاء مؤسسة عامة مختصة بالجنوب، ليصدر بعده مرسوم إنشاء مجلس الجنوب. فاعتُبر إنشاء المجلس حينها إنجازاً ضد الاحتلال الإسرائيلي.
تكمن غاية المجلس إذاً، بالقيام بجميع الأعمال التي تهدف إلى تلبية حاجات منطقة الجنوب وتوفير أسباب السلامة والطمأنينة لها، من تقديم تعويضات لأهالي الشهداء، إلى معالجة الجرحى ومواكبة حالات النزوح وغيرها، بالإضافة إلى القيام بمشاريع، مثل إعادة إعمار المنازل المتضرّرة وترميمها، بناء المدارس والمستشفيات، وإعادة إنشاء البنى التحتية.
للمجلس ميزانية متحرّرة ولا تُحضّر مسبقاً، أي لا يحدّد للمجلس في الموازنة ما هي المشاريع التي سيقوم بها، بل تعطيه الدولة أموالاً خلال سنة وله حرية التصرف بها. بالإضافة إلى المبلغ المقرَّر له بموجب قانون إنشائه، يتسلّم المجلس الهبات والتبرعات والأموال التي يقدمها أشخاص معنويون أو طبيعيون وينفقها في الغايات التي أُنشىء المجلس من أجلها، على أن تودع حساباً خاصاً في قيود الخزينة، ويجري إنفاقها ضمن هذا النطاق وفي الوجهات المخصصة لها في حال تحديدها من قبل مقدميها. خُصّص أول مبلغ للمجلس بثلاثين مليون ليرة لبنانية في موازنة سنة ١٩٧٠، ثم تمّت زيادة الميزانية.
في التسعينات، ونتيجةً لإجتياح ٨٢ ودخول الميليشيات على الخط، وفي ظل غياب أي تدخّل للدولة في فترة ١٩٩٠ – ٢٠٠٠، بالإضافة إلى مجزرة قانا سنة ١٩٩٦، وصولاً إلى انسحاب الإسرائيليين من جزء كبير من المناطق الجنوبية وعودة الناس إلى قراهم، تمّ تخفيض ميزانية المجلس بدايةً من عهد فؤاد السنيورة وصولاً إلى يومنا هذا.
اليوم، هناك جدال حول مستقبل مجلس الجنوب وهذه التجربة، في ظل اقتراح قانون2 يرمي إلى إلغاء هذا المجلس على غرار المجالس والهيئات الأخرى3 التي كانت قد أخذت وظيفة وزارة التصميم العام القديمة والملغاة عام 1977، وإنشاء وزارة التخطيط4 بديلاً عن كلّ هذه الهيئات والمجالس. وبالتالي تنظيمها وتحديد صلاحيّاتها من أجل تفعيل دورها ومكانتها المركزية في رسم السياسات العامة، ومكافحة الفساد وسدّ مزاريب المحسوبيات والمحاصصات الطائفية والمناطقية ووقف هدر المال العام الذي تسبّبت به المجالس والهيئات، حيث اعتبر مقدّمو هذا الاقتراح أنّ هذه المجالس هي نماذج للإنفاق الطائفي والمناطقي، غير المجدي وغير الفعّال، وأنّ لامركزية التخطيط سمحت بالهدر والفساد والإنفاق العبثي وطغيان الرَيع على الإنتاج.
يرى كثيرون اليوم أن وجود المجلس لم يعد ضرورة، لأنه كان مرتبطاً بالاحتلال والمفترض أنه كان مؤقتاً، كصندوق المهجّرين، كما أن دوره قد أُوكل مؤخّراً إلى جهات أخرى5. إلّا أن مسألة إلغائه ووجهت بالرفض، على اعتبار أن المجلس إنجازٌ لأهل الجنوب، ولا يزال هناك حاجة وحرمان في المنطقة. كما تم الدفاع عنه من زاوية المحاصصات على اعتباره حق لأهل الجنوب مقابل ما دفعوه ثمن الاحتلال الإسرائيلي والعدوان، وتمّت المطالبة بزيادة موازنته بدلاً من إلغائه. كما تم ربط مبررات استمرار المجلس في عمله بأمرين أساسيين: من جهة عودة وزارات الدولة إلى المنطقة، وقيام إدارات الدولة ومؤسّساتها بواجباتها تجاه الناس وتأمين حقوقهم، ومن جهة ثانية، زوال التهديدات الإسرائيلية.
كما أخذ البعض الجانب الإيجابي من المجلس، ألا وهو اللامركزية الإدارية، والتي يتميّز بها عن مجلس الإنماء والإعمار، وتم اقتراح إقرار مجالس مناطقية أخرى على غرار هذا المجلس، وتقويم التجربة وتطويرها، وجعل الرقابة عليها أكثر فاعلية، لتكون بذلك مجالس تنموية للمناطق، فتخفّف من حدّة المركزية، وتُشرك أبناء المناطق في التخطيط وفي تلبية حاجات المنطقة.
في واقع الأمر، فقد تحوّل مجلس الجنوب إلى مؤسسة تابعة للأحزاب المسيطرة مناطقياً وللطوائف من منطق المحاصصة، وبات بعيداً كل البُعد عن تأمين حقوق الجنوبيات\ين وحاجاتهم – وهو أمرٌ في صلب سياسات الدولة وتوجّهاتها.
ما هي مَهامه؟
استناداً إلى المادة الثانية من مرسوم إنشاء المجلس، يمكن استخلاص ما يلي:
- ”للمجلس“ أن يتعاون مع أي من الإدارات العامة والمؤسسات العامة أو الخاصة والبلديات في درس وتنفيذ المشاريع والأعمال الداخلة في نطاق غاياته.
- ”للمجلس“ أن يعهد إلى أي من الإدارات العامة والمؤسسات العامة او الخاصة والبلديات، كلٌ ضمن اختصاصها، في تنفيذ المشاريع والأعمال المذكورة لحسابه ووفقاً لأنظمته الخاصة.
- للمجلس“ أن ينفّذ بالذات أياً من المشاريع والأعمال التي يقرّر أنّها من المشاريع أو الأعمال الطارئة او المستعجلة.
- يطبّق ”المجلس“ في عقد الصفقات وتنفيذها وتسلّمها، الأحكام القانونية والنظامية الخاصة العائدة ”للمجلس.
المجالس تعمّر الجيوب على حساب الجنوب
خلال العقود الماضية، قام المجلس بمشاريع متفرقة، أبرزها تشييد المدارس والمستشفيات، حفر الآبار، ترميم ممتلكات عامة وثقافية، إنشاء ملاعب رياضية، شق الطرقات، وغيرها من التدخلات التي لا تنطلق من رؤية شاملة، ولا تعتمد على قراءة معمّقة لحاجات المنطقة، ولا تحترم المخططات التوجيهية، بل تنطلق من الصفقات الزبائنية والتلزيمات التي تأتي نتيجةً للمحاصصة. فالمدارس مثلاً كانت تُنفَّذ بحسب نموذج موحّد أو prototype، دون الأخذ بعين الاعتبار حاجات المناطق، عدد التلاميذ، عدد أعضاء الجهاز التعليمي وغيرها، كما أن أرض المشروع كانت تُقدّم كهبة للمجلس، لا يشتريها، فتكون بأغلب الأوقات بعيدة عن السكن، ممّا يجعل مواقع المدارس المنفَّذة غير مناسبة. هذا بالإضافة إلى تعاون المجلس مع وزارة التربية خلال فترة توزير عبد الرحيم مراد، وأخذ الموافقة منها على المدارس.
وتتميّز المشاريع المنفَّذة بالصفقات وسوء استخدام السلطة والإدارة، ليتمّ وصف المجلس تارةً ب “المحمية الشيعية” أو “الإدارة الانتخابية الحركية”، أو حتى “مجلس إنماء الجيوب” بدلاً من مجلس إنماء الجنوب. وقد عزّز الإستقلال الإداري والمالي الذي ينعم بهما المجلس هذا الاعتقاد، على الرغم من خضوعه للرقابة، واحدة لاحقة من ديوان المحاسبة وأخرى يتولّاها مراقب مالي (ذو وجود رمزي وعرفي، أي أن دوره شبه مغيب) تعّينه رئاسة الوزارة بالتكليف، وأخرى عبر دورة سنوية لمفتشي التفتيش المركزي.
على سبيل المثال، وثّق تقرير لـ ”سكّر الدكانة” مخالفات عدة حول مشروع مياه نبع العين الزرقاء في البقاع الغربي، من هدرٍ للمـال العـام (الفرق بين التكلفة المقدّرة وتكلفة التنفيذ هو ٣٠ مليون $)، إلى تلزيم علـى مراحل (المتعهّــد قبض ثمــن الأشغال والدراسات مرتيــن) وصولاً إلى تلاعـب في الأسعار وتضخيم للكميّات وغياب تبرير المصاريف ومخالفة المبـادئ العامـة كما القوانيـن.
هذا بالإضافة إلى أن المجلس لا ينفّذ أي مشروع من تلقاء نفسه، بل يتم تقديم طلب من قبل المواطنين أو النافذين في المنطقة أو حتى البلديات، ما يجعل الأمر استنسابياً في معظم الأحيان أو مرتبطاً بمصالح سياسية وانتخابية.
في المناقصات
تتمّ المناقصات عبر مجلس الجنوب (كما في غيره من المؤسسات) في ظل غياب للرقابة ونقص كبير في عدد المراقبين، وفي ظل عدم تفعيل التفتيش المركزي وإدارة المناقصات ودون إدخال كفاءات إلى هذين الجهازين، ليشكّل هذا الواقع عقبة أمام وضع معايير موحّدة تتم بموجبها المناقصات، وليؤكّد على أن النظام المتحكّم بتسيير هذه المناقصات يتعمّد إنتاج النهب واستغلال موارد الدولة. ففي قانون المناقصات العمومية مبدأٌ عام يجعل المناقصات بموجبه عامة وعلنية، محدِداً بوضوح الإستثناءات عليه. إلا أن هذا الإستثناء تحوّل إلى مبدأ، وبشكل خاص بعد إنتهاء الحرب اللبنانية. إذ باتت كل المناقصات، وبحجة إعادة الإعمار وتأهيل البنى التحتية بأسرع وقت، محصورة بالتراضي بحجة الحاجة للإسراع بتلزيمها وإتمام المشاريع. وقد تم ربط هذه الصيغة بالتسويات التي كانت في طور انعقادها إبّان انتهاء الحرب، على مبدأ “شراء السلم الأهلي بالمال”، أي فتح باب المحاصصة على مصراعيه. من هذا المنطلق، خُلِقت صناديق ومجالس تُمرِّر السلطة من خلالها المشاريع للمقرّبين منها والمتموّلين. بالتالي بات كل مجلس أو صندوق محسوباً على جهة نافذة معينة، وتتوزّع هذه الجهات المشاريع من خلال هذه الصناديق أو المجالس. وتجدر الإشارة إلى أن نسبة السرقة في العقود الصغيرة أكبر منها في العقود الكبيرة على صعيد نسبة الهدر مقارنة مع قيمة المشروع الأساسية وليس على صعيد القيمة. في السابق، كان هناك عدد كبير من المقاولين يقدّمون على المناقصات. أمّا لاحقاً، وبعدما أصبحوا معروفين، اعتمدوا الاتفاق بين بعضهم البعض على النسب والأسعار المقدّمة أو القرعة.
في الإنفاق
بلغ الإنفاق الفعلي لمجلس الجنوب، عام 2017، نحو 40 مليون دولار. ورغم استحواذ المشاريع المنفّذة على أكثر من ثلثي قيمة هذه النفقات (نحو ٢٨ مليون دولار)، إلا أنّها بقيت غير معروفة، ولم يُحدَّد عدد هذه المشاريع وحجمها، واكتفى كشف الحساب المقدّم بتبويب عام من نوع: مشاريع مائية وطرقات مدرسية ومستشفيات وغيرها. وبلغت قيمة المساعدات نحو ٣.٩ مليون دولار أي ٩.٥% من النفقات، علماً بأن المجلس لم يعلن عن عدد المستفيدين أو أسباب الإستفادة من هذه المساعدات.
في فائض التوظيفات
لم يلتزم مجلس الجنوب بالقرار الصادر عن مجلس الوزراء بعدم التوظيف في كل المؤسسات التابعة للدولة – نتيجة فائض في التوظيفات، فأصبح عدد موظفيه يفوق الـ500 شخص مسجّلين في الصندوق الوطني للضمان الإجتماعي. فهل تستلزم مشاريع المجلس هذا العدد الكبير من الموظفين؟
وفي عام ١٩٧٧، انضم العديد من موظفي مصلحة أو هيئة التعمير إلى مجلس الجنوب بعد إلغائها في هذا العام؛ كما انتقل عام ١٩٨٩ عددٌ من العاملين في وزارة الدولة لشؤون الجنوب والإعمار إلى المجلس بعد إلغائها أيضاً. في المقابل، انتقل عام ٢٠١٩ إلى وزارة الأشغال، كل مهندسي مجلس الجنوب ووزارة المهجرين الذين أصبح عمرهم 58، 60 و62، وقاربوا على التقاعد، بهدف التوظيف من طوائف مختلفة. هذا تغيير ممنهج واستهداف واضح لتفريغ المؤسسات من مكان وزيادة الأعداد في مكان آخر، وبهدف ضرب التوازن وتعميم التنفيعات.
في الرواتب والأجور
يمثّل بند الرواتب والأجور ١٩.٧% من مجمل النفقات، وتوازي رواتب المكلَّفين بالكشف عن الأضرار، أو ما يعرف بالاستقصاء، 14 مرة رواتب كل الموظفين، وتوازي بدلات المدير وأعضاء مجلس الإدارة كلفة رواتب كل الموظفين. كما تُشكّل تعويضات الأعمال الإضافية للموظّفين أكثر من ضعفي قيمة الرواتب الأساسية، فيما تشكل المكافآت مرة ونصف مرة الرواتب الأساسية. وفي توثيقٍ لحالات غير قانونية، وجدنا حالة إبقاء على أحد المدراء العامين الذي أنهى خدمته، 12 سنة كاملة بتصرّف رئيس مجلس الوزراء من دون عمل فعلي، وهو يتقاضى راتبه كاملاً.
في عقد الإيجار لمقر مجلس الجنوب
تملك “حركة أمل” مقر المجلس، وقد تمّ استئجاره من خلال عقدين: الأول في عام 1985 بقيمة 276 مليون ليرة، والثاني في عام 1995 بقيمة 364 مليون ليرة، ومجموع العقدين 640 مليون ليرة تُدفع سنوياً من مجلس الجنوب لحركة “أمل”. ومن الضروري أن نذكر أن حركة أمل لها كتلة نيابية في البرلمان، كما يرأسها نبيه برّي، رئيس المجلس النيابي أيضاً، في تطبيق فاضح لمبادئ الأوليغارشية وممارساتها.
نشر على موقع أشغال عامة/ مرصد سياسات الارض.
Leave a Comment