عمر قدور*
لئلا يبدو التساؤل المطروح أعلاه ساذجاً بالسؤال عمّا لا وجود له، نشير على سبيل المثال إلى هيئة باسم “الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية”، وهذه الهيئة تحظى ولو شكلياً باعتراف عشرات الدول، وعلى قاعدة أنها تمثّل الثورة. لدينا أيضاً، على سبيل المثال لا الحصر، مؤسسات إعلامية “تحت مُسمّى الإعلام البديل” مبررُ وجودها الأساسي هو النطق باسم الثورة، ومبرر وجودها لا ينفصل عن أسباب تمويلها من قبل الجهات المانحة الداعمة لها كمشروع ثوري. لدينا أيضاً منظمات فئوية معروفة وأخرى غير معروفة، كان يُفترض ببعضها أن تكون جاهزة لليوم التالي على سقوط الأسد، عندما كان إسقاطه بالثورة مطروحاً.
كان كثر قد أعلنوا فرادى انتهاء الثورة، ومنهم مَن عمل ضمن الهيئات المحسوبة عليها، وأعلن يأسه من تلك الهيئات التي تبدو صامدة وراسخة لا لأن لها رسوخ المؤسسات العريقة المحترمة، ولكن لأن اليائسين منها لا يملكون قرار حلّها. أما القوى الخارجية، ذات النفوذ على هيئات المعارضة، فقد احتفظت بها مع الحطّ منها وصولاً إلى تصفير قيمتها تقريباً. ساعدها ويساعدها في ذلك سوريون أظهروا استعداداً للعمل بموجب وصاية قوى الخارج، وتشبّثاً بالسلطة الرمزية لمناصبهم مهما تدنّت، وتشبثاً لا يقلّ ضراوة بالمكاسب المادية الآتية منها.
من الملاحظ أن الممسكين بهيئات تزعم تمثيل الثورة، وبكون الأخيرة مستمرة لأنهم يدّعون ذلك، لم يلقوا مقاومة من العدد الأكبر من السوريين الذين انتموا يوماً إلى هذه الثورة، وانتظروا منها أن تفتح للسوريين عهداً من الديموقراطية والمشاركة الفاعلة في الفضاء العام. بعبارة أخرى، استنكفت غالبية السوريين المعادين للأسد عن ممارسة السياسة، بل كان هناك تعفّفٌ عنها يعكس نظرة سلبية إلى الذين يمتهنونها ولم يخيّبوا أسوأ الظنون!
إذا تجاوزنا المنتفعين والمرتزقين من هيئات الثورة وملحقاتها فإن أصحاب أطيب النوايا، ممّن يعزّ عليهم إعلان نهاية الثورة، هم الذين يربطون تلقائياً بين الاعتراف بفشل الثورة والاعتراف بانتصار الأسد. هذا ربط ينقصه الانتباه إلى فشل الأسد الذريع، والذي تستحيل العودة عنه إلا بمعجزة، وهو بالتأكيد من إنجازات الثورة، وقد يكون إنجازها الوحيد في إطار الصراع مع الأسد.
لقد كانت الثورة لحظة اتفاق على معنى مشترك بين السوريين، وإذا أخذنا في الحسبان الأسبقية التونسية والمصرية والليبية فالثورة كانت بمثابة معنى مشترك لشعوب المنطقة التي تتشابه معاناتها، خاصةً في بلدان الجمهوريات الوراثية أو السائرة في هذا الاتجاه. نفترض، في سوريا تحديداً، أن مطلَبَي الحرية والديموقراطية يمثّلان ملايين الذين تظاهروا مطالبين بهما، ونسبة لا بأس بها من الذين لم يخرجوا للتظاهر، ولا نبالغ إذا ضممنا إليهم نسبة من الصامتين الذين حسموا لاحقاً مواقفهم بمعاداة الثورة.
من السهل تفسير انفضاض السوريين عن تلك اللحظة المشتركة بانقساماتهم الطائفية والإثنية، يعززها انعدام الثقة بينهم وانعدام المناخ الديموقراطي لبنائها. نضيف إلى هذا أننا لن نشهد خلال عشر سنوات لاحقة “على الأقل” بعد اندلاع الثورة محاولات حقيقية لإنتاج معنى سوري مشترك، يأخذ في الحسبان ما ظهر من انقسام وأسبابه المتنوعة. نقصد بالمعنى المشترك ذلك المعنى الذي يحظى بالانتشار بين سوريين يتبنونه، لا ذلك الذي ينتجه أفراد ويبقى ضمن دائرة ضيقة جداً حتى إذا نال بعض الاستحسان.
إن واحداً من أسباب البحث عن معنى مشترك “أو إنتاجه” هو الاعتراف بفشل الثورة، لو حدث هذا كعتبة اتفاق دنيا. إذ من دون الاتفاق على أنها انتهت، وفشلت إذا كان مهمتها فتح الباب أمام الانتقال الديموقراطي، لن يكون ممكناً التفكير العام فيما بعدها، أو الدعوة إليه على نحو مغاير للمبادرات الفاشلة التي بقيت في الحيز الضيق لانتقاد الهيئات “الثورية” الموجودة، على أرضية اتهامها بعدم تمثيل الثورة تمثيلاً صحيحاً محترماً.
من المؤكد أن تدخل قوى الخارج قد تسبب بمزيد من اليأس، ومزيد من التسليم بأن الموضوع السوري خرج من أيدي السوريين جميعاً. إلا أن التدخل الخارجي يمضي بكل ارتياح لأن السوريين على هذا الحال من اليأس، ومن جهة أخرى يطرح الخارج تصوراته “أو يفرضها” في غياب تصورات ومشاريع سورية، أو ما أسميناه بالمعنى المشترك أو الذي يسعى ليكون كذلك. ولا مفر من أن يكون هذا المعنى مشتبكاً مع قوى الخارج، لوقوع سوريا تحت عدة احتلالات، ومن التبسيط والسذاجة الظن أن رحيلها جميعاً وكلياً مرتبط فقط برحيل بشار الأسد.
بالحديث عن المعنى المشترك، نعلم أن الأهداف الأكثر عمومية هي الأكثر قابلية للالتفاف حولها من قبل الطيف الأوسع. الثورة نفسها، بهذا المعنى، كانت عتبة متدنية من المعنى الذي التف حوله السوريون، ثم سرعان ما تفرّقوا عن المعنى المحمول على شعارين أو ثلاثة، وسرعان أيضاً ما تكشف الواقع عن تعقيدات لا ينفع معها التبسيط أو السذاجة في بعض الشعارات النبيلة حقاً.
الفكرة التي كانت سائدة إلى حد كبير أن الأولوية هي للشروع في التغيير الديموقراطي، وعندها سينتظم السوريون ويتصارعون صراعاً سلمياً يعبّر عن اختلافاتهم. هذا هو التصور الكلاسيكي عن الانتقال من الاستبداد أو الديكتاتورية إلى الديموقراطية، إلا أنه لا يلحظ خصوصية الانقسام السوري، ومن ضمنها أن يدافع عن الاستبداد متضررون منه. ولسنا أيضاً نجاري اللغة التبسيطية التي اختزلت الأمر مع مطلع الثورة بطلب تطمينات للخائفين، فهذا تعبير مخادع وغير حقيقي، ببساطة لأن التطمينات لن تطمئن أحداً، ومن المتوقع أن المبدأ الذي تقوم عليه سيزيد من خوف من يملكون الاستعداد لذلك.
ليس من ثورة تبقى لدزينة من السنوات، وتبقى معها مرجعيتها الأعلى عبارة عن بضع شعارات من النوايا النبيلة! هذا نوع من الأصولية الثورية في أحسن تقدير، ولا يندر أن يستفيد منها منتفعون صغار. الإخلاص للثورة يقتضي الإخلاص للمعنى المشترك الذي جمع ملايين السوريين، وهذا يكون بتوليد أفكار جديدة تصلح لتكون معنى مشتركاً راهناً، أو تحرّض باستمرار على إيجاده. لن يكسب الأسد إذا دُفنت جثة الثورة المغدورة، أما أيتامها فيخسرون فقط اطمئنانهم الزائف إلى وجودها، وهو للحق مكسب لهم ولذكراها التي تصادف الآن.
*نشرت في المدن الالكترونية الثلاثاء 2023/03/14
Leave a Comment