سياسة صحف وآراء

لبنان لا يُحكم بالعزل: الإقصاء سيغذي “الثنائي” بعصبية جديدة

منير الربيع

لا يمكن للبنان أن يحكم بالعزل. توالت المجموعات اللبنانية بمختلف اتجاهاتها وطوائفها على حالات من التقدم السياسي والشعور بلحظة انتصار على حساب انكسار الأطراف الأخرى. اختبر اللبنانيون عبر التاريخ تجارب التفوق من قبل جهة أو مجموعة بفعل علاقاتها الخارجية وتأثير موازين القوى على الوضع الداخلي، فتعزز وضعها السياسي فيما تراجع وضع القوى الأخرى. وهذه حكاية لبنانية متوارثة، لا تزال قائمة إلى اليوم. غالبية الطوائف والقوى سعت إلى تكريس غلبتها السياسية، منذ أن كان زمن المتصرفية، إلى ما بعد نشوء لبنان الكبير، وإلى ما قبل الحرب الأهلية وبعدها، وما بعد الطائف وصولاً إلى ما بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة. صراعات وأحداث وانقلابات في موازين القوى، تركت آثارها وجروحها وشروحها وقروحها في الجسد اللبناني، فعلّمت فيه كثيراً، لكن اللبنانيين لم يتعلموا من التجارب.

إصلاح وديموقراطية 
بإمكان العهد الجديد مع انتخاب جوزاف عون رئيساً للجمهورية، وتكليف نواف سلام تشكيل الحكومة، أن يحدث فارقاً نوعياً في المقاربات السياسية والطائفية والتغييرية حتى. لا سيما أن الرجلين انطلقا من خطاب متين ورؤية واضحة لما يفترض أن يكون عليه لبنان، والفرصة الأساسية في إعادة لملمة الأشلاء والشظايا القائمة منذ ما قبل انفجار الحرب، ومن لحظة انفجار ثورة 17 تشرين، والانهيار المالي والاقتصادي. وذلك لا يمكن أن يتحقق إلا باجتماع اللبنانيين على رؤية واحدة معيارها الكفاءة والوحدة الوطنية، والإقلاع عن الخروج من لغة الانتقام، أو تكريس غلبة طرف جديد على حساب طرف يمرّ بلحظة ضعف بعدما كان قد أمعن في ممارسة قوته أو تفوقه.

صحيح أن النقاش حول النظام الديمقراطي وأسسه وقواعده، يخلص إلى الارتكاز على قاعدة موالاة ومعارضة، لكن لبنان تعرّض لاختلالات كثيرة في توازناته ومؤسساته وآلياته الحكمية، وهذه بلا شك تحتاج إلى علاج وإعادة الاعتبار والاحترام لمفاهيم الديمقراطية، إلا أن ذلك يحصل على مراحل وبشكل تدريجي، وليس بالعزل أو الانتقام ولا بتجيير نتائج عسكرية أو سياسية فرضت بمعايير وظروف خارجية لتغيير الوقائع الداخلية، وهذا ما بدأ يظهر في محاولات فرض شروط حول تشكيل الحكومة، علماً أن الأطراف المتناقضة والمتعارضة تحاول فرض ما تريده.

وهو ما أدخل عملية تشكيل الحكومة في حالة من التعقيد بالنظر إلى الأطماع السياسية أو الوزارية، خصوصاً أن هناك اتجاهاً لدى بعض الداخل وبعض الخارج، لتكريس حالة استضعاف حزب الله وحركة أمل سياسياً بعد ما جرى عسكرياً، علماً أن ما تحقق في السياسة حتى الآن، من انتخاب رئيس الجمهورية، وتكليف رئيس الحكومة يمثل تطلعات لا تتقاطع مع تطلعات الثنائي الشيعي والذي يعتبر نفسه أنه خسر في المعركتين، ولا بد له من التمسك بما يمكن تحقيقه للحفاظ على وضعيته السياسية ووجوده العسكري. خارجياً هناك وجهة نظر غربية تشير إلى “فرصة” تقويض حزب الله، والمدخل المكمّل إلى ذلك هو في محاولة تقليص كبير في الحصة الوزراية لدى الثنائي، وكأن ما وراء ذلك محاولة إحراجهم لإخراجهم، ودفعهم إلى المعارضة، ما سيؤدي إلى اهتزاز داخلي كبير، يعرقل انطلاقة العهد، ويؤسس لصراع طائفي أو مذهبي لا يمكن التنبؤ بمخاطره.

الظروف الدقيقة
من حق القوى السياسية أن تطمح إلى تعزيز وضعها، ومن حق من كان في المعارضة أن يتلاقى مع التحولات للانتقال إلى الموالاة، ودفع من كان مسيطراً على السلطة إلى المعارضة، ولكن لا بد من مراعاة الظروف الدقيقة القائمة حالياً. ومن حقها أن تسعى إلى التغيير، وإلى تكريس تحقيق التقدم على حساب حزب الله، إلا أن ذلك يحتاج إلى دورتين انتخابيتين بالحد الأدنى، خصوصاً أن الحزب وأمل في هذه المرحلة يحتفظان بالتمثيل الشيعي كاملاً في مجلس النواب، وهناك قواعد سياسية عليلة جرى تكريسها طوال السنوات الماضية، لا يمكن الانتهاء منها بشكل فوري وقطعي حالياً، ولا يتحمل مسؤوليتها لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الحكومة المكلف، وصحيح أن الكثير من القواعد بحاجة إلى تغيير وتصحيح وتصويب، لكن ذلك يحصل بقوة التوازن وحسن الإدارة وليس بتوازن القوة، ولا بطريقة كسر الطرف الآخر.

محاولة عزل الثنائي الشيعي وإخراجه من الحكومة، لن تتيح لمعارضيه تحقيق ما يريدونه، حتى وإن تم تمرير الحكومة في مجلس النواب ونالت الثقة، لأن ذلك سيؤدي إلى اهتزاز الثقة مجدداً بين القوى اللبنانية، وثانياً ستشعر الطائفة الشيعية بأنها مستهدفة سياسياً بالاقتلاع والعزل كما كانت مستهدفة عسكرياً في الحرب الإسرائيلية، وهو ما سيضعها مجدداً أمام خوض حرب وجودية للحفاظ على الوجود السياسي، مع ما سيستدعيه ذلك من استنفار سياسي، مذهبي، طائفي، أيديولوجي، ينقل المعركة من معركة إصلاح وإعمار إلى معركة مواجهة طائفية تحيي الانقسامات العمودية التي لا تؤدي لغير الاقتتال. على مسافة أشهر من الانتخابات النيابية، فإن إشعار الطائفة الشيعية بالعزل سينتج عنه استنفار كبير وتوتر مرتفع، لتخاض الانتخابات بدافع المظلومية، وحينها ستكون الطائفة “المهددة” في حالة استقطاب شعبي كبير لإعادة تكريس غلبة وفوز الثنائي، وحينها لن يحقق المعارضون ما يريدونه، وسيعود الثنائي للاحتفاظ بمقاعده والعودة إلى الحلقة ذاتها، أما دونها، فحتماً ما سيكون هو أخطر وأكثر اهتزازاً للاستقرار.

 *نشرت بتاريخ 23 كانون الثاني 2025 على موقع المدن

Leave a Comment