زهير هواري
بيروت 20 اذار 2024 ـ بيروت الحرية
احتلال لبنان موقعا رئيسياً في “مؤشر هانكي للبؤس العالمي”، ليس صدفة، أو نتيجة العبقرية اللبنانية، بل هو ثمرة تضافر العاملين السياسي والاقتصادي – الاجتماعي معاً، ما يجعل حياة اللبنانيين في وضع لا يحسدون عليه، بالقياس إلى سواهم من أبناء الكوكب عرباً وعجماً وأجانب، مع استثناءات محدودة ونادرة جداً. العامل السياسي هنا مقرر. فالسياسية الممسكة بزمام الأمور لاتتزحزح عن مواقفها ومواقعها، وانتخاب رئيس جديد للجمهورية المعطل يبدو متعذراً من الآن وإلى حين من الدهر، لا يستطيع أحد أن يجزم بحدوثه في موعد محدد. والأنكى أن الفراغ وما يثيره من مناكفات على صعيد الحكومة، يترافق مع احتمال الحرب الإسرائيلية التي يهددنا قادة الكيان بها رداً على “حرب مساندة غزة” التي أعلنها حزب الله من الجنوب منذ 8 تشرين الأول الماضي. ما دفع بقادة العدو العسكريين إلى حشد قواتهم والتهديد بمصير للبنان مشابه لمصير غزة وخان يونس، وبالتالي إعادته إلى ما قبل قبل العصر الحجري.
وهو تهديد يكاد يدخل في منامات المواطنين وكوابيسهم الليلية، طالما أنهم يشاهدون يوميا على شاشات التلفزة عمليات الإبادة للمدن والمخيمات وأهلها، قتلاً وتدميرا وتجريفا وتشريداً وجوعاً وفقداناً لجرعة المياه وحبة الدواء ورغيف الخبز، وكل ما يدخل في ضرورات العيش والبقاء. أما أوضاعهم الاجتماعية فتتردى يوماً بعد يوم على وقع الانهيار الفعلي لقيمة الليرة اللبنانية في السوق، رغم ثبات سعرها في سوق الصرف. أي أن الليرة التي بات سعرها شبه ثابت بمعدل لا يتجاوز الـ 90 ألف ليرة للدولار الواحد، تتعرض قدرتها الشرائية للتراجع يومياً، بفعل فارق القياس بين تراجع قيمة النقد وارتفاع نسبة التضخم واسعار السلع المنتجة محليا والمستوردة على حد سواء. حتى أن الذين ينفقون بالدولار يلاحظون مدى تراجع قيمة العملة الأميركية الخضراء، بالمقارنة مع ما كانوا يشترون بها قبلاً من سلع وحاجيات غذائية واستهلاكية. يضاف إلى ذلك ما تضمنته موازنة العام 2024 من صنوف الضرائب والرسوم التي طالت الفئات المفقرة وما كان يسمَّى في سنوات غابرة طبقة وسطى. والتي تتعرض للاستنزاف المضاعف بفعل أوضاع الإدارة العامة وعمليات الفساد والرشاوى وهيمنة الاقتصاد الأسود على مرافق البلاد. ولعل نموذج إخفاء الطوابع وتوفيرها بأضعاف سعرها في ايدي المتلاعبين وتجار السوق السوداء وتعدد حلقات الاستنزاف هو مجرد نموذج عما يجري دون رقيب أو حسيب.
مؤشرات السعادة الغامرة!
والحصيلة أن المواطن يغرق بـ “السعادة” التي تغمره من جميع الجهات دون أن تترك له متسعاً من الوقت كي يتنفس. وفي كل يوم تظهر على السطح واحدة من مآثر الطبقة السياسية – المالية والتي تتجاوز ما يشعر به اللبنانيون إلى ما تؤكده المؤشرات والإحصاءات الدولية. فمثلا أظهرت عملية تصنيف العملات في العالم التي وضعتها وكالة بلومبيرغ أن العملة اللبنانية هي العملة الأسوأ أداء في العالم خلال عامي 2023 – 2024. فقد خسرت 83% أمام الدولار ، بينما تلتها الليرة النيجيرية بـ 42% منذ بداية 2024 ، وحل الجنيه المصري ثالثا بعد تراجعه بنسبة 38.3 % أمام الدولار، وتلاه البيزو التشيلي في المرتبة الرابعة مسجلا تراجعا بنسبة 10.2 % ، وحلت الليرة التركية في الموقع الخامس بنسبة تراجع 7% . لكن اللبنانيين ما كادوا يستفيقون من سكرة وضع عملتهم الكارثي التي فقدت معظم قيمتها، حتى صدر “مؤشر هانكي للبؤس العالمي” عن العام 2023 الذي يضعه أستاذ الاقتصاد التطبيقي في جامعة جونز هوبكنز الأميركية ستيف هانكي. وتبين من المؤشر هذا أن هناك 157 دولة حول العالم تحمل سمة الدول الأكثر بؤساً. وحتى لا نبقى في مجال التعميم فقد جاءت الارجنتين في المرتبة الأولى كأكثر دول العالم بؤساً، ثم حلت فنزويلا في المرتبة الثانية، ليأتي لبنان في المرتبة الثالثة، واستقرت سوريا الأسد في المرتبة الرابعة، وبعدها زيمبابوي، فالسودان، تركيا… وغيرها. أما الدول الأقل بؤساً، فجاءت تايلاند بالدرجة الأولى ثم اليابان فسويسرا، قطر، مالطا، الصين.. وغيرها. ويتبين من المؤشر أن الدول العربية تشغل “مواقع ريادية” في ترتيب البؤس حيث جاء الترتيب كالآتي: لبنان (الـ3 عالمياً)، سوريا (الـ4 عالمياً)، السودان (الـ6 عالمياً)، اليمن (الـ9 عالمياً)، مصر (الـ18 عالمياً)، الأردن (الـ31 عالمياً)، العراق (الـ33 عالمياً)، الجزائر (الـ36 عالمياً)، تونس (الـ38 عالمياً)، ليبيا (الـ45 عالمياً)، موريتانيا (الـ50 عالمياً)، المغرب (الـ56 عالمياً)، السعودية (الـ63 عالمياً)، الكويت ( الـ126 عالمياً)، الإمارات (الـ136 عالمياً)، البحرين (الـ144 عالمياً)، سلطنة عمان (الـ145 عالمياً)، قطر (الـ154 عالمياً).
صحة الأمن الغذائي
يستورد اللبنانيون 80% مما يستهلكونه من الخارج، ويبقى 20 % مما ينتجونه داخلياً، علماً أن الأخير يحتاج إلى مواد أولية صناعية وزراعية مستوردة (مواد كيمائية خام وأسمدة وأدوية وبذور ومحركات ومحروقات وما شابه). وهذا يعني أن اللبنانيين يتأثرون بأي هبة ريح في العالم فتتهدد عملية توازنهم الغذائي. ثم هناك سلع مستوردة بالكامل (سكر، شاي، أرز، ذرة، لحوم و..). الانهيار الغذائي للأسر حدث بفعل تراجع مداخيلهم، ما دفع بالعائلات إلى البحث عن السلع الأرخص. وأدرك قناصو الفرص من التجار هذا الواقع، فعمدوا إلى رفع منسوب الفساد في نوعية السلع التي يستوردونها ويسوقونها في السوق اللبناني، بصرف النظر عن كونها صالحة للأكل من عدمه. فمؤخراً راجت أنباء عن تسويق كميات من الأرز بعد أن صدرت شهادات مشكوك بها تفيد أنها صالحة للاستهلاك، علماً أن بيانات قد سبقت وحذرت من استهلاكها كونها تحوي موادا مسرطنة. وتبرعت وزارة الصحة بإصدار بيانات تعلن على عاتقها أن الفطريات والمواد التي تحويها كميات الأرز لا تشكل خطراً على الصحة العامة كونها تتعرض للنار خلال الطبخ، أو أنها تظهر للعيان بفعل العفونة وما تتركه من لون على الأرز المطبوخ فيتم التخلص منها. وهو ما رد عليه رئيس جمعية حماية المستهلك د. زهير برو مؤكّداً أن “هذه الفطريات في الطعام تؤسّس للسرطان، وبالتالي لا يمكن استهلاك الأطعمة التي يثبت أنها تحتوي على الأفلاتوكسين الذي يبقى في الطعام حتى بعد طهوه، لأن هذه المادة تفرزها الفطريات، وبالتالي إن ماتت الفطريات، فإن المادة تكون قد لوَّثَت الطعام”. ويأسف برو أن لا يكون هناك جهات تمثّل الدولة يمكن للمواطن اللجوء إليها، لأن “الجهات الرسمية والقضاء لا يقومون بواجباتهم في هذا الملف. ومع ذلك، على المستهلك صاحب الحق، أن يشتكي بشكل رسمي ليثبت حقّه القانوني وإن بصورة شكلية. ويمكنه اللجوء إلى جمعية حماية المستهلك التي تتابع الملف”.
شهر الصوم والطعام؟
هذا العام ومع قدوم شهر رمضان زادت وتيرة التلاعب بنوعية وأسعار المواد الغذائية انطلاقاً لأن الاقبال من شأنه أن يضمن شراء المعروض من المواد الغذائية المطروحة في الأسواق ، ما يجعله مناسبة مثالية لتصريف المواد الفاسدة والمغشوشة، على غرار بيع لحوم هندية وبرازيلية مبردة، على أنها لحوم أوروبية طازجة ذات سعر أعلى. فقد قام بعض أصحاب الملاحم “بمزج اللحم الهندي والبرازيلي بلحم أوروبي طازج وبيعه على أنه أوروبي خالص، بسعر يتراوح بين 12 و13 دولار للكيلو، في حين أن كيلو اللحم الأرخص يباع بـ 9 و10 دولارات، أي بمكسب يتراوح بين 2 و 3 دولارات للكلغ الواحد”.
على أن التجار أفادوا مما شهده البحر الأحمر من مواجهات مؤخراً، واعتماد العديد من شركات الشحن البحري بالدوران حول راس الرجاء الصالح مع ما يتطلبه من أيام إبحار إضافية وزيادة في أجور الشحن والتأمين، لرفع أسعار السلع كافة بما فيه غالبيتها التي ترد إلى لبنان من أوروبا وتركيا ومصر وغيرها من دول البحر المتوسط. كما أن أسعار الخضار والفواكه المنتجة محلياً قد شهدت بدورها ارتفاعات في أسعارها، وبات متعذراً على الكثير من العائلات تأمين متطلبات صحن الفتوش، الطبق التقليدي على المائدة الرمضانية.
اختصاراً يمكن القول إن الأرقام الرسمية لمعدلات التضخم السنوي تثبت مدى توسع ظاهرة الفوضى الحاصلة في الأسواق التجارية، وغياب الرقابة وضوابط التسعير. ورغم تراجع تبرير زيادة الاسعار بارتفاع سعر صرف الدولار منذ اشهر، إلا أن معدلات التضخم لا تزال تشهد ارتفاعات متتالية من دون توقف. وحسب أرقام مديرية الإحصاء المركزي، فقد بلغ معدل التضخم السنوي للعام 2023 قرابة 221 في المئة، وبالطبع يتابع رحلته في العام 2024. يجري هذا في ظل فقدان رقابة وزارة الاقتصاد التي تفتقد الكوادر البشرية الكافية لتغطية المناطق اللبنانية. وهي الوزارة التي لا يكترث التجار لمحاضر مراقبيها، فيما يعتبر مصدر مسؤول في الوزارة أن ارتفاع الأسعار أمر طبيعي في المرحلة الراهنة، على أن لا يتعدى 8 إلى 10 في المئة!.
Leave a Comment