سياسة

لبنان بين الحل الطائفي المستحيل وتحديات الإنقاذ والوحدة الصعبة جداً

 زكي طه

بيروت 17 تموز 2023 ـ بيروت الحرية

لا يحتاج اللبنانيون إلى تقارير دولية تطلعهم على أوضاعهم، ولا إلى تصاريح مندوبين وسفراء توصّف أحوالهم، وتذكرهم بمعاناتهم التي تسبب بها حكامهم، وتحذرهم من مخاطر سياساتهم وممارساتهم التي تهدد مصيرهم.  وأكثرهم يعرف كيف يستغل هؤلاء مشكلاتهم اليومية العامة أو الفردية، ويتعمّدون من خلالها تسعير أزمات البلد، التي لا يتورعون عن الدفع بها إلى حافة الانفجار تبعاً لمصالحهم الفئوية من مواقعهم الطائفية التي يدعون تمثيلها.  تم يتعمدون وبعد انتفاء حاجتهم منها، إلى ركنها في ارشيف الملفات المتراكمة التي لا تزال تبحث عن حلول لها منذ ما قبل تاسيس الكيان حتى تاريخه. وكيف تتكرر محطات التأزم وتتجدد وتتفرع مسارات  الصراعات بين تلك القوى، وهم الذين اختبروا التسويات بشانها ومن ثم الانقلاب عليها عند كل تبدل في موازين القوى الداخلية أو الخارجية المرتبطة بها.

هكذا كان الامر، الذي لا يزال قائماً ومرشحاً للاستمرار بقوة أخطاء اللبنانيين وخطاياهم. وهم الذين فشلوا لغاية الآن في معالجة أزماتهم، سواء كانوا في مواقع السلطة أو المعارضة. مما أدى إلى الإبقاء عليها لاستخدامها مستندات لتبرير وجود سائر اطراف السلطة، ومرتكزات لأدوارها وسياساتها ومنافعها الفئوية عبر تكرار إعادة انتاج محطات تأزمها وصولاً إلى الانهيار الذي يضع لبنان راهناً أمام تحديات كبرى ومصيرية.

والأزمات المشار لها مصدرها إشكالية الانقسام الأهلي العميق، والترابط المحكم بين صيغة الكيان والنظام الطائفي وقواه على نحو يصعب معه الفصل بينها. وهو القيد الذي حكم تاريخ اللبنانيين، ولا يزال يأسر حاضرهم ومستقبلهم، لأنه يشكل أساس خلافاتهم حول هوية الكيان الوطنية، وحدوده والعلاقات بين أبنائه ومحيطه ودوره، وطبيعة المصالح والحقوق المشتركة بينهم، بما فيه التعريف بهم، هل هم مواطنون أم رعايا طوائف مختلفة. وهي القضايا التي كانت ولم تزل راهناً مصدر جميع الإشكاليات الدستورية والحقوقية والانسانية الملازمة لهم في جميع مناحي حياتهم اليومية والوطنية، والتي تدور حولها خلافاتهم ونزاعاتهم الدائمة. وهي التي تشكل العائق أمام وحدتهم على وجّهَة حياة مشتركة ونظام حكم قابل للتطور، بالإضافة إلى كونها ركائز اختلاف علاقاتهم مع الخارج ورهاناتهم عليه، ومبررات تدخلاته في أوضاع بلدهم.

في موازاة محطات التأزم المتكررة والنزاعات المحتدمة بين قوى الطوائف المتصارعة، التي انتهت بتسويات محاصصة طائفية مؤقتة، تكررت محاولات التحرر من القيد الطائفي، وتعددت مشاريع بناء وحدة لبنانية مجتمعية. لكن الانتكاسات والارتدادات والفشل لازمها جميعاً. ولأنها اصطدمت بمصالح قوى الطوائف فقد كان لبعضها نتائج تدميرية على كل المستويات. لأن تلك القوى لم تتردد يوماً عن خوض معارك الدفاع عن نظامها وأدوارها ومواقعها بكل ما هو متاح لها من اسلحة. ولذلك هي تتحمل القسط الأكبر من المسؤولية عن إفشال المحاولات المشار لها.

إلا أنه في المقابل لا يمكن إعفاء قوى المعارضة والتغيير من المسؤولية، في ضوء نتائج محاولاتها، وفشلها جراء عجزها عن ادراك عمق إشكالية الانقسام الأهلي وصعوبة تجاوزها، إلى جانب قصور احاطتها بعوامل قوة نظام المحاصصة، وبطبيعة قواه وترسانة اسلحته الفتاكة. وهذا ما جعلها تكرر الوقوع في فخ الرهان على هذا الطرف الطائفي أو ذاك، خاصة الذين تناوبوا على رفع رايات الديمقراطية لمواجهة الحرمان وطلب المشاركة في الحكم سابقاً،  أو تنازعوا شعارات العروبة والاستقلال باسم المقاومة والسيادة راهناً. الأمر الذي حال لغاية الآن دون تشكل حركة معارضة مجتمعية عابرة للطوائف والمناطق، قادرة على خوض الصراع على نحو تراكمي، من بواباته المتعددة استناداً إلى مصالح وطموحات وحقوق أكثرية اللبنانيين.

ولذلك ومنذ تأسيس الكيان، وبين قيد انقسامات الداخل وقيود مصالح الخارج، يستمر اللبنانيون أسرى تكرار النزاعات والمحاولة بين خيارين: الحل الطائفي المستحيل ومشروع الوحدة الصعب جداً. وهو الأمر الذي يضعهم  راهناً امام تحديات، إما الركون إلى الصراعات الطائفية وتدخلات الخارج فيها والقبول بنتائجها، وإما تجديد البحث عن المداخل الأجدى لتحشيد اللبنانيين المتضررين في مسار تراكمي يحقق وحدتهم على نحو متدرج، ويضمن لهم حق الانتساب إلى وطنهم واختيار طبيعة نظامه وأفق تطوره في امتداد حقوق كل الشعوب.

إن الاستهانة بالانقسام الاهلي هي استخفاف بالمسؤولية عن المصير والمستقبل في آن. وهي تغطية للهروب من موجبات بناء وحدتهم في مواجهة قوى الطوائف المتصارعة والتحرر من تدخلات الخارج، ورسم وجهة للعلاقة معه استناداً إلى حقوقهم العامة ومصالحهم المشتركة، التي كانت ولا تزال موضع خلاف ونزاع بينهم، باعتبارها تشكل مصدر الخلل الرئيسي الملازم لنشأة وتاسيس الكيان ومحطات وجوده وعدم استقراره على امتداد مائة عام.

ولذلك فإن المسؤولية الوطنية تقتضي مغادرة الخفة في التعامل مع تاريخنا، وعدم الهروب من مسؤولياتنا، عما صنعت أيدينا، وما ارتكبناه جميعاً من أخطاء وخطايا بحق بلدنا ومواطنيه. لأن التهوين من شأن خلافاتنا وصراعاتنا واشتباكاتنا وحروبنا، وعدم ترصيد حساباتنا والاستفادة من تجاربنا، بما فيها انتفاضة 17 تشرين المجيدة، يعادل استخفافاً كاملاً بمستقبلنا. كما يجدد إقامتنا عند الحد الفاصل بين الوطنية وعدم الوطنية والخيانة. عدا كونه يشكل تغطيةً للاختلاف في تعريف وفهم ووجهَة معالجة ما هو راهن من  اليوميات  اللبنانية، بدءاً من الفراغ الرئاسي وتصريف اعمال الحكومة وملء موقع حاكم المصرف المركزي وتفعيل إدارات الدولة ومؤسساتها وقطاعاتها العامة المشلولة، إلى  العجز عن حل النزاعات بين اللبنانيين حول ملكية اراضيهم، والخلافات حول  معالجة قضية النازحين السوريين،  مروراً بمعارك ترسيم الحدود البحرية والبرية والانتصارات الوهمية وسط الامعان في التلاعب بمصير لبنان واللبنانيين، برعاية الإدارة الاميركية وضماناتها، في موازاة أهازيج السيادة والاستقلال والمقاومة والتحرير لتظليل مشاريع الهيمنة الطائفية، والتحكم بالآخر واخضاع اللبنانيين بقوة الأمر الواقع، باسم الاصلاح والانماء والتغيير، للتمويه على استمرار بقاء البلد في قعر الهاوية التي دُفع لها.

إن البحث في سبل الخروج من المأزق اللبناني وشروطه الداخلية والخارجية ليس شعارات يرفعها هذا الطرف أو ذاك، وليست مقولات فكرية أو شعارات عامة مبدئية معلقة في الفراغ. بقدر ما هو جهد وعملية صراعية متعددة الميادين  والمستويات، تتعلق بمدى أهلية وقابلية البنية اللبنانية وقواها المجتمعية  المتضررة على الاضطلاع بموجبات إنقاذ البلد، انطلاقاً من المصلحة الوطنية المشتركة، في بقائه كياناً وطنياً موحداً وقائماً بذاته، يستحق عدم التفريط به أو الاستخفاف بأهمية وجوده.

إن الكيانات لا تتأسس على الخرافات، والأوطان لا تُبنى وتترسخ بقوة الأساطير الطائفية، ولا تحصنها المغامرات الفئوية الانتحارية، كما لا تحميها الانتصارات الوهمية. ووجودها واستمرارها قائم على تغليب العوامل والمصالح المشتركة بين مكوناتها مهما تعددت اختلافاتهم.  كذلك فإن بقاءها وإنقاذها من المخاطر، يتطلب بذل الجهد والاستفادة من تجارب الماضي، وحُسن قراءة صعوبات الوضع الراهن موصولاً بمعرفة موطيء القدم اللبنانية الآن،  في منطقة تعصف بكياناتها ودولها ومجتمعاتها حروب أهلية مدمرة، حولتها ساحات مرتهنة لتدخلات الخارج الاقليمي والدولي، الذي سيقرر مستقبلها ومصيرها وفق مصالحه.

إن انتظار موفدي الخارج لمعرفة  مصير لبنان وسبل معالجة أزماته، لا يختلف عن الارتهان لصراعات أحزاب الطوائف وخياراتها المدمرة، وكلاهما يشكلان هروباً من تحمّل المسؤولية الوطنية عن خلاص البلد وتحقيق طموحات واحلام وآمال اللبنانيين التي تستحق النضال والتضحية من أجلها.

Leave a Comment